-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المستقبل لمن يصنعه وليس لمن ينتظره

أحمد بن يغزر
  • 520
  • 0
المستقبل لمن يصنعه وليس لمن ينتظره

في السرديات العامّة المتداولة حول المستقبل يُقدَّم كما لو إنه قطعة زمنية مستقلة يتطلع إليها الجميع، فهو البؤرة التي تتجمع فيها كل ثمار السعي والحركة في الحاضر، ينظر إليها الأباء والأمهات أنها ما تستحق ما يبذلانه من جهد ليكون أولادُهم في أفضل حال، وهي بالنسبة للطلاب والشباب هدف مساعيهم في التمكن من الشهادات الدراسية والجامعية، وهي بالنسبة للدول والحكومات والمؤسسات مجال تحقق مقاصد الخطط والمشاريع وهكذا…

يفرض هذا الإدراك المهيمن للمستقبل تصورا آليا عن المطلوب في الحاضر، وأسوأ ما في الأمر أن نتصرف على أساس حتميات ومسارات معينة استقرت في وعينا ولا وعينا بحكم التوريث الاجتماعي والثقافي الذي يُعيد إنتاج نفسه بشكل مستمرّ من جهة، وبحكم التنميط الذي فرضته الحياة الحديثة للأمور وسطوة الثقافة الغالبة من جهة أخرى، وربما ما يزيد هذا المنطق قوة وحضورا أنه يُثبت نجاحه في الواقع بمقاييس معينة ومحددة مسبقا لمفهوم النجاح.

أليس من واجبنا أن نتساءل أفرادا وجماعات ومجتمعات عن جدوى الاستمرار في التسليم بهذا الاعتقاد؟ ولماذا علينا أن نصدِّق كل ما يُضخُّ في عالم أفكارنا من مقولات وأفكار ورؤى ومفاهيم ونتعامل معها على أنها بديهيات وحقائق نهائية غير قابلة للفحص وللمراجعة؟ أليس من الممكن أن يُعاد النظر جذريا في الصياغات التي فرضتها القوى المُتغلبة المرئية وغير المرئية للمفاهيم وللممكن ولغير الممكن وللصواب وللخطأ؟

يبدو العالم اليوم -وفي الحقيقة منذ مدة طويلة- مُقولبا، تقف على رأسه قوى مُعينة معلومة ومعروفة ومجهولة أحيانا هي التي تحدد له خياراته وأذواقه وأفكاره وقيمه، وتصنع له خطواته ومساراته، وهي تؤدي ذلك بمهارة عالية تُشعر وتُوهم الجميع بأن مساحة حريتهم وإمكانيات خياراتهم واسعة ومُمتدة وهي تنبع من إرادتهم بشكل حر ومستقل.

وأسوأ ما في الأمر أن الشعور بدور هذه القوى في تحديد الخيارات يكاد ينعدم، وتلك هي نقطة قوتها وسر فعاليتها، فهي تصنع تأثيرها بدون ضجيج، وتُخاطب النفس العميقة (اللاشعور) أكثر من الشعور الواعي، وتُصور لضحاياها أن خيارتها هي رغباتهم، وبدائلها هي من صميم قرارهم.

يتساوى في هذا الشعور وينساق له عددٌ هائل من البشر باختلاف أعراقهم ولغاتهم وأديانهم بل وحتى طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم العلمية، فهم جميعا قيد ما يدفعهم إليه ما سماه الفيلسوف الألماني ألبرت اشفيتسر “ذهن العصر” الذي يجعل القادة أنفسهم”… لا يستطيعون أن ينفذوا غير ما يجري من أفكار في ذهن العصر، إنهم لا يصنعون الأداة التي يعزفون عليها، وإنما يعطون مكانا للجلوس أمامها من أجل العزف، بل ولا يؤلفون القطعة التي سيعزفونها، انما هي توضع أمامهم ولا يملكون تغيير شيئ فيها، وكل ما يملكونه هو العزف بدرجة متفاوتة من المهارة والنجاح”.

ولو كان بإمكان “ذهن العصر” أن يكون ذهنا عالميا شاملا قادرا على استيعاب جميع ما يموج به العالم، أو متسامحا على الأقل –أقول (لو) لأن ذلك غير ممكن عمليا– لكان الأمر مفهوما، لكن ما حدث عبر التاريخ ويحدث واقعيا يقول إن من “يدفع تكاليف الحفل هو من يطلب السمفونية التي يريد” كما هو في المثل الشائع، إن من يمتلك الإرادة وروح المبادرة وقوة الحضور هو من يفرض مفاهيمه وقيمه وتصوراته وحتى أوهامه، وليس على الضعيف العاجز إلا أن يصدّق ويوافق وينساق.

ربما يتذكر الجميع في هذا الإطار كيف تم الترويج مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي مع نهاية ما عُرف بالحرب الباردة لمصطلحات من قبيل: النظام العالمي الجديد، نهاية التاريخ، صدام الحضارات، العالم المسطح، الفوضى الخلاقة، وغيرها… ولم تكن هذه المفردات مجرد توقعات محتملة يمليها التحليل الأكاديمي والاستشراف العلمي– وإن كان لها من ذلك نصيب- لكن كانت في جوهرها عناوين لسيناريوهات أعدت مسبقا بإتقان في مخابر البحث والتفكير لتكون ملامح مستقبل مُتخيل آنذاك.

عندما تكون قويا تستطيع أن تفرض حقائقك، وتُقنع الآخرين حتى بأوهامك، لكن حقائقك وأنت ضعيفٌ تصير أوهاما، أن تكون على حق ليس ذلك كافيا، تحتاج إلى أن تكون على حق وقويا في نفس الوقت.

يقال إن التاريخ يكتبه المنتصر، أو بمعنى آخر إن شرعية الرواية وتفسيرها لا تكتسبها من كونها صحيحة ودقيقة وموثقة، ولكن من كون من يقدمها ويروِّج لها هو القوي، القوي بما يملكه من أدوات الترهيب التي تمنع المناقشة والتشكيك والاعتراض، والقوي أيضا بما يملكه من أدوات الترويج والتثبيت والتفسير و”الإقناع”، ويمكن اليوم لهذه القاعدة أن تُسحب على الحاضر وعلى المستقبل أيضا.

وإذا كان من المعتاد أن تحرص الأمم وتتسابق على صياغة إدراك الماضي أو التاريخ بالشكل الذي يستجيب لحاجات حاضرها، فإن قوى الهيمنة لم يعد يكفيها أن تتحكم في صياغة ذلك، فأصبحت تعمل على أن يمتد نفوذها إلى حد صياغة وعي الآخرين عن ذواتهم وعن حاضرهم وعن مستقبلهم، ولا علاقة لذلك كما تدّعي هذه القوى بالحداثة والعصرنة والتطور والتثاقف والعولمة… لكن كل ذلك برسم مداخل فعّالة لضمان استمرار وديمومة التمكن والتحكم.

ربما يتذكر الجميع في هذا الإطار كيف تم الترويج مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي مع نهاية ما عُرف بالحرب الباردة لمصطلحات من قبيل: النظام العالمي الجديد، نهاية التاريخ، صدام الحضارات، العالم المسطح، الفوضى الخلاقة، وغيرها… ولم تكن هذه المفردات مجرد توقعات محتملة يمليها التحليل الأكاديمي والاستشراف العلمي– وإن كان لها من ذلك نصيب- لكن كانت في جوهرها عناوين لسيناريوهات أعدت مسبقا بإتقان في مخابر البحث والتفكير لتكون ملامح مستقبل مُتخيل آنذاك.

إن هذه الاستراتيجية التي تستبطن بشكل واضح نزعة متأصلة لدى قوى الهيمنة في فرض نموذجها باستخدام كل الأدوات الممكنة، وأكثر من ذلك لا تقبل أن تجد في طريقها أي مشروع منافس، ومن زاوية ما فإن ذلك قد يُعد مفهوما فمن السذاجة أن نتوقع من القوي المهيمن أن يفتح الطريق أمام من يقدم نفسه بديلا أو حتى شريكا، لكن المسلكية المُنتهَجة في هذا الاتجاه تنسف كل القيم التي تدعيها هذه القوى من قبيل التسامح والقبول بالتنوع والديمقراطية.

المستقبل إذا هو أيضا ساحة للتنافس والتدافع، ولا يتعلق الأمر هنا فقط بامتلاك مقدرات القوة الصلبة وأدوات التفوُّق الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والعسكري، وإن كان كل ذلك مهمًّا، لكن أيضا بامتلاك القدرة على صياغة وفرض المفاهيم الحاكمة، والقيم القائدة، ولا يُتاح ذلك إلا للأمم التي تنجح نخبُها في أن تجمع أفرادها على مشروع نهضوي يكون المستقبل ساحته الأساسية، فالمستقبل لمن يصنعه وليس لمن ينتظره.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!