-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المسيح المفترى عليه

المسيح المفترى عليه

أتردَّد كثيرا على أوروبا وأمرُّ في كثير من الأحيان بمحاذاة الكنائس يوم الأحد فلا أرى أحدا يطرق بابها أو يقف عند عتباتها إلا خدامها وعشاق الصورة الذين يستهويهم أخذ الصور عند الكنائس، فالكنيسة في ضمير كثير من الأوروبيين المعاصرين شيء من الماضي وقداسة جدرانها عندهم أولى من قداستها وقداسة رهبانها.

لقد طغت العلمانية على المجتمع الأوروبي ولم يعد كثيرٌ من مواطنيه يؤمنون بشيء اسمه المسيح أو يتعلقون بشيء اسمه الكنيسة. لقد حدثت تحولاتٌ كثيرة في المجتمع الأوروبي، ومن آثار هذا التحول تزحزح الدين وحلول المادة محل العقيدة، فقبل سنوات من الآن كنت أصادف في طريقي في فرنسا أو ألمانيا أو هولندا أو غيرها جماعاتٍ من الرهبان والراهبات المسيحيين في غُدوِّهم ورواحهم إلى الكنيسة، أما اليوم فلا أكاد أرى شيئا من ذلك لأن أوروبا ببساطة قد نفضت يدها من المسيحية وتخلت عن الكنيسة وتبرأت من الدين وعادت كما كانت على ملة قسطنطين ولم تعد تتذكر المسيح إلا في يوم يتيم وهو رأس السنة الميلادية، ليس حبا فيه، بل حبا في الليلة الماجنة الصاخبة التي ينتظرها بعض الأوروبيين -و معهم بعض العرب والمسلمين- على أحر من الجمر، ليلة يدوسون فيها على تعاليم المسيح ويشوّهون فيها صورة مريم العذراء ويعقرون فيها الخمر إلى الفجر، ثم ينصرفون إلى بيوتهم كالذي يتخبطه الشيطان من المس.

لقد أصبحت قداسة عيد الميلاد في أوروبا أولى من قداسة المولود، وتحولت صورة المسيح إلى صورة مسلية من أجل نيل بركة الرب في يوم تُذبح فيها تعاليم الرب من الوريد إلى الوريد ولا حب يعلو فيه على حب النبيذ. لقد شقت أوروبا عصا الطاعة على الكنيسة وزهد كثيرٌ من الأوروبيين في المسيحية بل شراها بعضهم بثمن بخس وكانوا فيها من الزاهدين. لم تعد بين المجتمع الأوروبي والكنيسة صلة رحم، فقد توصد أبواب الكنائس في يوم من الأيام وتحوَّل إلى مسارح أو متاحف، لا أقول هذا نكاية في المسيحيين بل هي حقيقة يستشرفها كل من يتابع التحولات الخطيرة التي يشهدها المجتمع الأوروبي. إن الحبل السُّرِّي بين مجتمع المدنية ومجتمع الكنيسة قد قُطع وأوروبا مقبلة على رِدّة دينية كبيرة قد يتحول معها رجالُ الكنيسة إلى جماعة من المنبوذين، وقد يضطر بعضهم إلى خلع ثياب الكهان والذوبان في مجتمع المادة قبل فوات الأوان.

كتبت من مدة أن العلاقة بين الكنيسة والفرد الأوروبي والمجتمع الأوروبي ستصل إلى طريق مسدود لأنها لن تستطيع إقناع إنسان عصر الذرة بعقيدةٍ متهافتة، اخترعها بولس وخدع بها أجيالا مسيحية كثيرة، عقيدة تجعل الواحدَ ثلاثة ويلفها أصحابُها بسفسطة دينية لا يُثبتها نقلٌ ولا يصدّقها عقل، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة في العهد الجديد ولكنني لا أريد أن أذكرها في هذا المقال فلكل مقام مقال.

إن المسيحية في أوروبا تنتقص من أطرافها يوما بعد يوم، وسيأتي عليها زمان ٌتصبح في خبر كان، لأنها إذا كانت قد نجحت في خداع إنسان ما قبل الحداثة فإنها لا تستطيع خداع إنسان ما بعد الحداثة. إن المسيحية لا تملك مقومات البقاء لأنها ديانة قائمة على الإيمان بغير المعقول كما ذكر الشيخ محمد عبده في كتابه (الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية).

إن العصر الذي نعيشه هو عصر العقل بامتياز، ولا يمكن للعقل أن يصدّق خرافة الثلاثة واحد أو حكاية الإله المصلوب وهو يستغيث على خشبة الصلب كما يستغيث كل إنسان مصلوب، ولا يمكن للعقل أن يصدّق أكذوبة مملكة الرب التي لم تتحقق ولن تتحقق لأنها ببساطة من صنع الكهان وتلفيق الرهبان.

أعتقد أن المسيحية توشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة في مستعمراتها الدينية السابقة وفي عقر دارها ولا يغرنَّ كثيرا من العرب والمسلمين أنها لا تزال في أوج قوتها، فإنما هو خداعٌ يتولى كبره بعض الرعاع وبعض الجهال بتاريخ المسيحية، أما العارفون بهذا التاريخ فيعلمون أن نهاية المسيحية وشيكة لأنها لا تستطيع بشكلها الأسطوري والفلكلوري الصمود في عصر الذرة والمجرَّة، ويمكن لمن يشك في هذه الحقيقة أن يطلع على أخبار المسيحية في تقارير الفاتيكان التي تكشف شيئا من الوضعية المزرية التي تمر بها المسيحية.

قبل سنوات من الآن كنت أصادف في طريقي في فرنسا أو ألمانيا أو هولندا أو غيرها جماعاتٍ من الرهبان والراهبات المسيحيين في غُدوِّهم ورواحهم إلى الكنيسة، أما اليوم فلا أكاد أرى شيئا من ذلك لأن أوروبا ببساطة قد نفضت يدها من المسيحية وتخلت عن الكنيسة وتبرأت من الدين وعادت كما كانت على ملة قسطنطين ولم تعد تتذكر المسيح إلا في يوم يتيم وهو رأس السنة الميلادية.

قد لا يدرك كثيرٌ من المسلمين الأسباب التي دفعت الكنيسة الكاثوليكية لاتخاذ قراراها التاريخي في المجمع الفاتيكاني الثاني بإعادة النظر في علاقتها بالمسلمين. إن من أسباب قبول الكنيسة الكاثوليكية طي صفحة الماضي وتفعيل الحوار الإيجابي بين أهل الديانات وخاصة بين المسيحيين والمسلمين هو يقينها بأن صورة المسيحية التاريخية صورة مهزوزة، وبأن إقناع الآخرين بصورة المسيحي الوديع في ظل تاريخ كنسي أسود هو ضرب من الخيال، فلم يكن للكنيسة الكاثوليكية مخرجٌ من هذا الموقف المحرج إلا القبول بالحوار مع الآخر من أجل إزالة آثار العار التي تركها بطرس الناسك ومن نحا نحوه.

إن الصخب الذي يصاحب أعياد الميلاد شبيهٌ في اعتقادي برقصة الديك المذبوح؛ فهذه الأعياد هي آخر ما تبقى من حيلة للكنيسة من أجل إنقاذ نفسها وإقناع أتباعها بالبقاء في حضنها في ظل حالات الردة المتصاعدة خاصة بين أوساط الشباب الذين لا يريد أكثرهم وصلا بها.

يعطي القرآن الكريم صورة جميلة عن المسيح وأمه عليهما السلام، صورة الفتى المعجزة والنبي المرتضى وصورة الأم الصديقة العفيفة فيقول: (ما المسيح ابن مريم إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) (المائدة 75)، فكيف ينتسب لهذا النبت الطاهر عاقرُ خمر ومن ديدنه قول الشاعر: (اليوم خمرٌ وغدا أمر)؟ وكيف ينتسب لهذا النبت الطاهر من عطّل عقله وعقر فكره واعتقد أن الله ثالث ثلاثة وأن المسيح عليه السلام قد مات على الصليب؟ وكيف ينتسب لهذا النبت الطاهر من يكذب على المسيح على الصريح ويدَّعي أن الخمر قد استحال دما؟ وكيف ينتسب لهذا النبت الطاهر من يقضي السنة كلها في المجون ثم يتخذ من آخرها فرصة لطلب الصفح وللصلح مع المسيح؟ وكيف ينتسب لهذا النبت الطاهر من اختار اللائكية منهجا للحياة ثم يتظاهر في ليلة رأس السنة الميلادية بصورةٍ ملائكية؟ وكيف ينتسب لهذا النبت الطاهر من صدق خرافة المسيح ابن الله وهو يقرأ في الأناجيل أنه عاش في الناصرة وأنه كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ وكيف ينتسب لهذا النبت الطاهر من بين معاملاته وتعاليم المسيح بعد المشرقين؟ وكيف ينتسب لهذا النبت الطاهر من يدعون إلى الحوار مع المسلمين وهم يضعون أيديهم في أيدي شذاذ الآفاق الذين دنَّسوا المسجد الأقصى وكنيسة القيامة؟ أين غيرتهم على كنيسة القيامة ومهد المسيح؟ لقد داس أتباع مسيح رأس السنة على ما دوّنته أناجيلهم عن المسيح عليه السلام وهو من صنع كتابهم، فكيف يُنتظر منهم أن يصغوا إلى الحق ويذعنوا للحقيقة القرآنية عن المسيح البشر وقد استبدت بهم الأهواء واستهوتهم الشياطين ولعبت الخمر برؤوسهم فهم في غفلة ساهون؟.

وأوجّه في نهاية هذا المقال نصيحة للمسلمين الذين لا يرون حرجا في الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية وبأن هذا –كما أفتاهم شياطينهم- من المتعة المباحة وليس من الأمور المحرمة، فأقول لهم إن الانتساب للإسلام لا يكون بالهوى بل بإتّباع ما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)، وقال أيضا: (لتتبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). إن الإتّباع في الصغائر يؤدي إلى الإتّباع في الكبائر ومن أسخط الله وأرضى غيره فليس من الإسلام في شيء. إن الله أكرمنا بالإسلام فهو صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة.

لا مساومة في العقيدة ولا مجاملة في الشريعة، فالعلاقة في هذا الجانب بيننا وبين المسيحيين وغيرهم يحكمها قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) (الكافرون 6)، ولكن هناك خارج هذا المجال فرصا كثيرة للحوار والتعاون بيننا وبين المسيحيين وخاصة في إطار المشترك الإنساني، وهي فكرة نستمد شرعيتها من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، يقول الله سبحانه وتعالى: (وقولوا للناس حُسنا) (البقرة 83)، ويقول الرسول صلى الله عليه سلم: (من ظلم مُعاهِدا أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا خصمُه يوم القيامة).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • احمد قالية

    بوركت شيخنا الفاضل