-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“المعريفة”.. من شفاعةٍ حسنة إلى بيروقراطية حديثة

جمال غول
  • 1071
  • 0
“المعريفة”.. من شفاعةٍ حسنة إلى بيروقراطية حديثة

إنّ من عجائب هذا الزَّمان أنّه لا يخطر ببالك أن تُنجز أيَّ معاملة دون التّفكير في البحث عن وساطة تُسهِّلُ عليك مشاقَّ إنجازها، وتُعبِّدُ لك الطّريق لتحصيلها، حتّى لو كانت تلك المعاملة من أسهل المعاملات كُلفةً؛ كاستخراج شهادة ميلاد، ناهيك عن المعاملات التي تتطلّب شروطاً وإجراءات خاصَّة، فـ”المعريفة” تصبح آكدة بلا أدنى مِرية. وهكذا أصبحت “المعريفة” في زماننا ممرّاً لازماً لإنجاز ما تريد من الأعمال واستخراج ما تطلب من الوثائق، ويا تعاسة وشقاءَ من لا سند له من “معريفة”.

والأعجب من ذلك أن يتحوَّلَ شُغْلُ بعض المسؤولين الشَّاغل هو التدخّل لصالح من يعرفونهم، فتجدهم يستقبلون معارفهم في مكاتبهم الرَّسمية من أجل التدخّل لتسجيل ابن أو بنت في الطَّور التّحضيري، أو توقيف عقوبة إدارية مستحقّة، في حين يأنفون عن استقبال انشغالات المواطنين، ودون أدنى رغبة في حلِّ مشكلاتهم رغم أنَّهم ما وُضعوا في هذه المسؤوليّة إلا لخدمة الشّعب.

وكم يُهدر هذا المسؤول من وقت أثناء فترة عمله، ما بين مكالمات هاتفية وتنقلات ميدانية؛ لإنجاح تدخّله ومسعاه لصالح معارفه على حساب واجباته الوظيفيَّة، فلا يهُمُّه أن تتعطّل مصالح المواطنين لإنجاز مصالح معارفه، ولا تهُمُّه الطوابير الطويلة لعموم الشّعب بقدر ما يهمُّه صاحب الحظ والسَّعد من معارفه، وهكذا تصبح “المعريفة” خيانة لأمانة الوظيفة، وضياعاً لحقوق الشعب ومصالحه، وحاجزا مانعا عن سير المعاملات بطريقة قانونية.

كم من مريض حُرم من مكانه الطبيعي في المستشفى بسبب أن بعض الأماكن تمّ حجزها عن طريق التدخُّلات!؟ وكم من موعد فحص تأخّر أشهراً بسبب مواعيد كثيرة تمّ أخذها عن طريق “المعريفة”؟! وكم من طالب متخرِّج موهوب حُرِمَ من توظيف بسبب التّدخلات التي أضاعت عليه تحقيق طموحه؟! وكم من مسابقات لمناصب وظيفيَّة فُتحت لتوضع لها شروطٌ على مقاس أصحاب “المعريفة” دون غيرهم؟!

كم من مريض حُرم من مكانه الطبيعي في المستشفى بسبب أن بعض الأماكن تمّ حجزها عن طريق التدخُّلات!؟ وكم من موعد فحص تأخّر أشهراً بسبب مواعيد كثيرة تمّ أخذها عن طريق “المعريفة”؟! وكم من طالب متخرِّج موهوب حُرِمَ من توظيف بسبب التّدخلات التي أضاعت عليه تحقيق طموحه؟! وكم من مسابقات لمناصب وظيفيَّة فُتحت لتوضع لها شروطٌ على مقاس أصحاب “المعريفة” دون غيرهم؟! وكم من تدخّل كان بغير وجه حقّ ودون أدنى تثبّت، أفضى إلى إعطاء حقّ لمن لا يستحقُّه، وضياع حقِّ من يستحقه؟! كيف لنا أن نلحق بركب الدُّول المتقدِّمة وفينا هذا الدَّاء المقيت؟!

وازداد مقتا عندما أصبح عند البعض (سقاطة) فيطلبون التدخل و”المعريفة” فيما لا يُحتاج إلى ذلك، أو تغطية على تقصيرهم في واجبهم، أو تهرُّبا من تحمُّل مسؤولياتهم، أو تهاونا في أداء معاملتهم بنفسهم، ومن قُصد من أجل تدخّل لذلك وامتنع لأمر يوجب الامتناع سواء كان شرعيا أم قانونيا أم ظرفيا، فإنّه يُلام ويُنعت بأنّه ليس خدوما، وربما يوصف بأنه من المتكبِّرين أو من السذّج! فكم من الناس أحرِج حرجا شديدا عندما أريد له التدخل فاتصلوا بوالده أو والدته حتى لا يكون مصير تدخّلهم الرفض؟! وكم من النّاس كثُر عليه الطلب من أجل التدخل وفي غير اختصاصه، فلا هاتفه سلم ولا مكان عمله ولا حتى بيته! فقط لأنه معروفٌ وينبغي أن يكون له علاقاتٌ فشُقّ عليه واستُنفدت جهوده في غير محلّها الصحيح!

وهكذا تحوّلت “المعريفة” من باب الشّفاعة، الشَّفاعة المحمودة إلى بيروقراطية حديثة ومشقة عسيرة، إنّ الشَّفاعة المشروعة هي ما كانت في الحقِّ والخير، ينتفع بها الشافع والمشفوع له، وليست على حساب حقوق الآخرين ومصالحهم، ولا على حساب واجبات العمل وأمانة المسؤوليّة. والشّفاعة الحسنة هي التي يعُمُّ بها الخير، وتتحقّق بها مصالح الناس، ولا تنتج المظالم والأحقاد، فهي بهذه المعاني والمقاصد فضيلة، وقد رغبَّ فيها الشارع، قال الله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) [النساء: 85]، وقال النبي عليه الصَّلاة والسَّلام: (اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا) [صحيح البخاري]. أمَّا إذا كانت الشفاعة سبيلا لتضييع الحقوق، أو فيما لا يستحق الشفاعة أصلا، فتلك شفاعة سيئة ممقوتة، قال الله تعالى في شأنها: (وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا) [النساء: 85] ومعنى كِفْلٌ منها: أي نصيب من الوِزْر والإثم.

ومن أخطر الشّفاعات السَّيئة الشّفاعةُ في الحدود والعقوبات، جاء في الصَّحيحين في قصَّة المرأة المخزوميّة التي سرقت وكبُر على قومها أن يقيموا عليها الحدَّ لشرفها ومكانة قبيلتها، فتوسَّطوا لها بأسامة بن زيد -وهو حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبِّه ـ فغضب رسولُ الله لذلك أشدَّ الغضب، وانتفض رافضاً لهذه الشفاعة السيئة قائلا: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ)، وبيّن أنَّ هذا الأمر من أسباب هلاك الأمم ودمارها، فقال: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ)، وكشف عن صرامته في قطع دابر الشفاعات السيئة بقوله: (وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) متّفق عليه.

فليتعظ هؤلاء المتدخّلون إن كان لهم قلبٌ يحبُّ مرضاة الله على كل شيء، ويتَّقي الله في وطنه، وحاضر ومستقبل أمّته، ومن لم ينته فإنّه لا مناص حينئذ من الضَّرب بيد من قوة الحقِّ لكلِّ من يخون دينه ووطنه بهذه التدخُّلات والشّفاعات السَّيئة. وبهذا الإجراء الصَّارم مع الوعي الديني والحس الوطني ستختفي بإذن الله الوساطاتُ السيئة، ويُقطع دابر “المعريفة” العفنة.

وحينها سيجد الانتهازيون أنهم لم يكونوا على شيء، وسيكتشفون أنّ معارفهم وعلاقاتهم أشبه بسراب بقيعة، كما قال تعالى في حق الكفّار: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور: 39]. وسيتبيّن لهؤلاء المتدخّلين أنّ هواتفهم لم تعُد ترنّ، فضلا عن أن تُشدَّ إليهم الرِّحال، وتنهال عليهم الهدايا من كلِّ جانب، والذي يبقى ويثبت هم أصحاب التّدخلات الشّريفة الذين يسعون إلى إزالة المظالم، وتثبيت الحقوق؛ لأنّها تدخُّلات بُنيت على تقوى من الله، وابتغاء ما عنده من الفضل والأجر، وقد قال عليه الصَّلاة والسَّلام: (وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَة) رواه البخاري ومسلم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!