-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المغني “يذير”.. تراثُنا في قلب العولمة

المغني “يذير”.. تراثُنا في قلب العولمة

غادرَنا المثقفُ المغني العالميّ حميد شريط المدعو “يذير” إلى عالم الآخرة، عن عمر ناهز 71 سنة، بعد مرض لازمه لمدة غير قصيرة. وانتشر خبر وفاته في القارات الخمس انتشار النار في الهشيم، فتأثر الناس بمستوياتهم الاجتماعية المختلفة (رؤساء، وزراء، مثقفون، سياسيون) بهذا الخبر الصّاعق أيّما تأثر، وعبّروا عن آيات تعازيهم بتغريدات مفعمة بالحزن والتقدير، وبمقالات مؤثّرة نُشرت في  صحف كثيرة وكبيرة في حجم “واشنطن بوسط” و”الشرق الأوسط”، وبتغطية إعلامية عبر القنوات المرئية من حجم BBC مثلا، تحدثت عن أعماله الرائعة التي أوصلت الأغنية الأمازيغية إلى العالمية.

وكيف لا يحدث إعصار تعاطفيّ وقد كان الراحل – رحمه الله-  سفيرا للسلام والمحبة بين الشعوب، وكان رهانه الإنسانيّ يتماهى مع فلسفة منظمة اليونيسكو العالمية المتمثلة في حماية التنوع الثقافي في إطار الوئام والتسامح. لذا فمن الطبيعي أن تكون مديرة اليونيسكو السيدة اُودْرِيْ أزُولايْ في طليعة من قدّم التعازي لعائلته، معترفة بفضله في رفع الأغنية الأمازيغية إلى مصاف العالمية، فكان جديرا بأن يكون سفيرا لها لدى شعوب العالم.

الصدفة تصنع نجما غنائيا عالميا

شاء القدر أن يأتي المغني “يذير” إلى عالم الغناء الهادف عن طريق الصدفة. كان يذير قد أنهى تحصيله الجامعي في مطلع سبعينيات القرن الماضي في تخصّص بيولوجيا، وكان مُحبّا للموسيقى كهواية. لكن شاءت الصدفة أن يعوّض -لظرف طارئ- المغنّية “نوارة” في أداء أغنية “أفافا أيْنُوفا” في حصة إذاعية مباشرة بالقناة الثانية الناطقة بالأمازيغية، باقتراح من السيد عبد المجيد بالي (منتج الحصة)، قدّمه  للمستمعين باسم مستعار “يذير”. قبل حميد شريط عرضه دون أن يدري أنه خطى خطوته الأولى نحو بوابة عالم الفن الغنائي، الذي ترك فيه بصمته بارزة إلى الأبد. كان من الممكن أن تنتهي مغامرة القصة عند هذا الحد لو لم تحقق الأغنية نجاحا باهرا بعد إعادة بثّها بعد ذلك مرارا، وكان “يذير” خلال فترة صعود أغنيته هذه يؤدّي الخدمة الوطنية. وأمام نجاحها الباهر قام بتسجيلها محليا في مؤسّسة “الواحة”. ثم لم يلبث أن جاءه عرضٌ دولي فتم تسجيلها في مؤسسة Pathé Marconi ، وكان ذلك منعطفا تاريخيا في حياته جعله يلج باب الغناء الاحترافي، استلزم منه الإقامة في فرنسا التي كانت ومازالت تستقطب الفنانين من كل حدب وصوب، بالنظر إلى توفر أسباب النجاح والشهرة فيها.

حدث ذلك في أواخر السّبعينيات، ومكث هناك إلى أن التحق بالرفيق الأعلى يوم 3 ماي 2020م. والجدير بالذكر أنه زيادة على نهله من التراث القبائلي، فقد أخذ أيضا بعض الطبوع الموسيقية من التراث الشاوي والطرڤي، وكان “يذير” يعتبر الآلات الموسيقية التقليدية (الدف والناي والغيطة وغيرها) مكوّنا هاما في هويّتنا الثقافية، لكنه لم يكتف بها فقط، بل أضاف إليها آلات حديثة أضفت على الموسيقى الأصيلة مسحة عصرية. واللافت في أغانيه أنه استوحى الكثير من مضامينها من الحكايات القديمة التي كان يحكيها الكبار للصغار، ومن مرارة الهجرة التي كانت تمزّق شمل العائلات. هذا ومن الإنصاف أيضا أن أشير إلى دور الشاعر بن محمد في إثراء رصيد المغنّي يدير، إذ بلغ عدد الأغاني التي ألفها له عشر أغاني.

لؤلؤة بابا أينوبا

لأغنية “أفافا أيْنُوفا” قصة لا بد من شرحها؛ فهي في الأصل حكاية يرويها  الكبار للصغار خاصة في ليالي الشتاء الطويلة، عندما يجتمع أفراد الأسرة حول الموقد التقليدي (الكانون) تأكل النار الحطب فيه على امتداد الليل، ويتحلّق حوله الصغارُ والكبار طلبا للدفء. وحدث أن طلب الفنان “يذير” من الشاعر  المدعو بن محمد تعديل محتوى الحكاية لضرورة الغناء، ولم يحتفظ منها إلّا بـ”اللازمة” التي تصف كُمون الأب في كوخ بالغابة بسبب التصاقه بالأرض بعد خروج الريح منه (حسب الحكاية (ثَمَشَهُوتسْ) التي سمعتها في طفولتي عن العجائز في قريتنا)، وعلى إثر ذلك صارت عائلته ترسل إليه الطعام إلى هناك عن طريق ابنته. وكان كلما طلبت منه فتح الباب (لِـيِينْ ثابُورْثْ أفافا أيْنُوفا)، إلاّ وخشي مخاتلة الغول له (اُوڤاذغْ الوَحْشْ الغابَا)، لذلك كان يطلب منها هزّ أساورها ليتأكد من هويتها (أسْ تَـشنْ تَـشنْ ثِزَبَـڤاثِينِيمْ أيَلّي غْرِيبَا). أما باقي محتوى الأغنية فهو من إبداع خيال الشاعر المدعو بن محمد، وصف فيه حياة الليالي الطويلة في زمن الشتاء، في بيتٍ قروي بجبال جرجرة (القبائل) في الزمن الماضي. تحدّث عن تحلّق أفراد العائلة حول الكانون (الموقد) طلبا للدفء وهم يستمعون إلى حكايات ترويها العجائز والشيوخ، وبموازاة ذلك تكون النسوة (بنات، زوجات الأبناء، عجائز) مُنهمكات في غزل البرانيس والأغطية وهنّ يردّدن الأشعار الصوفية والأزجال. ولم يهمل الشاعر بن محمد الخواطر التي تجول في عقول الساهرين، وفي مقدمتها ترقّب قدوم الربيع بحُسنه الضاحك. ولا شك أن هذه الصورة تعبر تعبيرا قويا عن تماسك الأسرة في المجتمع التقليدي، الذي لم يعد قائما في زمن ثورة الاتصالات التي أدخلت “الفردانية” القاتلة إلى البيوت والعائلات، نتيجتها تفكُّك الأسرة.

نجم في سماء الشهرة

لعلَّ خير شاهدٍ على علوّ كعبه في عالم الغناء، ترجمة أغنية “أفافا أينوفا” إلى أكثر من 15 لغة في العالم ومنها العربية طبعا! وكذلك المشاركة أحيانا في أداء أغانيه الأمازيغية في العالم من طرف عمالقة الغناء أمثال شارل أزنافور وماكسيم فوريستيي، وعزف ألحانه في المسارح العالمية الكبرى، وفي فضاءات خاصة شاركت فيها أحيانا شخصياتٌ سياسية مرموقة مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ورغم أنه حظي بإكليل الشهرة العالمية بفضل بالمواظبة على الحفر في التراث الأمازيغي العريق، فقد كان التواضع تاجه المفضّل الذي رصّع به حياته، ولم ينغمس في حياة البذخ والترف، ولم يجعل فنه سُلّما لكسب المغانم، بل اتّخذه وسيلة لإنقاذ الثقافة الأمازيغية من النسيان والاندثار، ولمساعدة المحتاجين بالمشاريع الخيرية، ولنشر القيم الإنسانية التي يشترك فيها البشر، ولخدمة القضايا العادلة في العالم، كما جعل “يذير” فنّه منبرا لترقية المرأة وتحريرها من قيود “الهيمنة الذكورية”، وفي هذا السياق لم يقصّر في طاعة والدته أو في تثقيف ابنته ” ثَانِينَه” التي أخذت منه من التكوين الفني قد يؤهلها لتكون امتدادا لأعماله الفنية الخالدة.

التزام بقضايا المجتمع

حينما يتمعن المرء في نصوص أغاني “يذير”، يجدها مستوحاة من التراث الأمازيغي، وتتمحور حول الحرية والوحدة والمحبّة وآلام الغربة، والأخُـــوَّة الإنسانية التي تستوجب العيش في كنف السلام، ولن يتأتى ذلك – في رأيه- إلاّ بزوال الإيديولوجية الضيّقة المتعصّبة التي تلغي الآخر وتلغي التنوّع وتسعى إلى تسطيح العقول. ومن قناعاته أيضا أنه من الصعوبة بمكان أن يتعامل مع سلطة أدارت ظهرها لثقافته الأمازيغية الأصيلة، وصادرٍت الحريات ومنعت الحقوق بمعانيها الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهذه القناعة هي التي جعلته يرفض لسنوات عديدة عروض العمل مع وزارة الثقافة، على غرار رفضه عرضا قدّمه له وزير الثقافة للمشاركة في حفل صاخب أقيم في  ملعب 5 جويلية 1993م،  قائلا له: كيف تريدني أن أشارك في الحفل والجزائريون يُقتَلون في الشوارع ويُساقون إلى المحتشدات في الصحراء؟ وقد جلب له هذا الموقفُ غضبَ السلطة آنذاك، فشنّت عليه حملة شرسة لتشويه سمعته.

لكن ترسيم الأمازيغية بموجب تعديل الدستور سنة 2016م كان فرصة لتليين موقفه ولتجديد التواصل مع الجمهور الجزائري، وعلى إثر ذلك أقام حفلا فاخرا بالقاعة البيضاوية بالعاصمة في شهر جانفي 2018م، تبرَّع بعائداته لفائدة الأعمال الخيرية في الجزائر. وعندما هبّت رياح الحراك الشعبي السلمي يوم 22 فيفري 2019 م، رحّب به أيّما ترحيب واعتبره سانحة للتفاؤل.

التعلّق بالوطن

كان المغني “يذير” مواطنا جزائريا يسكنه حبّ الوطن، فلم يخطر بباله يوما أن يحمل غير الجنسية الجزائرية، وجاء في أغنيةٍ من أغانيه أنه يحبّ وطنه حتى ولو كان حجرا حافيا (خاس ذزرو يحفان، حملغك أياذرار إنو). وسُئل يوما عن الفارق بين منزله بأرض أجداده وبين منزله بالغربة، أجاب بأن الفرق شاسع؛ ففي الأول يشعر بالسكينة التي تجعله يُبحر في عالم ذكريات الأجداد المرتبطة بالمكان، ويجد نفسه كالمجنون يخاطب الشجر والحجر. أما منزله بالغربة فيشعر فيه بالقلق، لصعوبة الانسجام مع مجتمع منافق يرفض الغرباء الوافدين، لذا فهو مقتنع بأنّ “حقيبة العودة” جاهزة عنده في كل الأوقات.

أصالة ذات نزعة إنسانية

آمن “يذير” بجزائر موحّدة في إطار احترام تنوّعها الثقافي، وفي هذا السياق صرّح أن حبّه للتراث الأمازيغي لا يتعارض مع احترامه للغة العربية التي لا يعاديها أبدا، بدليل أنه كان يعشق الموسيقى الشرقية (فيروز، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب) ويدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني؛ إذ رفض الغناء في فلسطين في ظل الاحتلال الصهيوني.

ورغم أن الإيمان مسألة شخصية، فلا بأس من الإشارة إلى تأكيده لإسلامه، سواء بالغناء “أغنية أمْلِيِي” (أنِرْ لي دربي) أو بالتصريح، وكان يرى أن تعاليم الدين لا تمنعه من معايشة إسلامه بلغة أجداده الأمازيغية، كما تفعل شعوبٌ كثيرة غير عربية في العالم.

والجدير بالذكر أن المغني “يذير” هو الوحيد الذي انتبه إلى وجود قابلية لدى المغني شارل أزنافور لاعتناق الإسلام. وبقدر اعتزازه بإسلام أجداده الأصيل، كان يؤمن بالتسامح الديني في وطنه وفي العالم.

وعلى أي حال فإن المهمّ في حياة الفنان “يذير” هو الجانب الفني الذي أبدع فيه بطريقة متفرّدة تجمع بين صناعة الفرجة والترويح عن النفس، وبين نفض غبار النسيان عن التراث الأمازيغي الذي طواه النسيان طويلا.

التواضع تاج الكبار

رغم  مقامه المحمود، لم يدّعِ المغنّي “يذير” يوما أنه إنسانٌ معصوم لا يجري عليه النقد، فمن الطبيعي أن تتعرّض بعض مواقفه للنقد (بعض عبارات أغانيه القديمة، ومقاطعته مناسبتين ثقافيتين: الجزائرعاصمة الثقافة العربية 2007م/ قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015م)، فالنقد هو وسيلة حضارية للنقاش الهادئ، وآلية معرفية لترقية الذوق السليم. لكن علينا أن نميّز بين عطائه الفنيّ الراقي الذي يهمّ الرأي العام، وبين حياته الشخصية التي يجب أن تُحترم، كما يجب أن نميّز بين النقد الموضوعي المطلوب، وبين التجريح غير المرغوب.

اخترق عصرك بجذور أصالتك

كان المغني يذير يحلم بأن يُدفن إلى جنب أمّه بأرض أجداده بجبال جرجرة، لكن جائحة فيروس كورونا واعتبارات عائلية أخرى حالت دون ذلك. هذا ومن أقوى وصاياه هي أن: «أطْفثْ أڤْ زُورَانَ، ألحُوثْ أرْزَّاثْ»، أي «اخترقوا عصركم بجذور أصالتكم». ومن أجمل الكلمات التي أدلى بها لبعض زوّاره قبل أيام قليلة عن رحيله، أنّه لا يحمل ثقافة الإساءة، بل يحبّ ويحترم الناس جميعا. فما أجمل الحياة التي تجمع الأصالة والمعاصرة، في كنف المحبّة والنزعة الإنسانية!.

* آمن “يذير” بجزائر موحّدة في إطار احترام تنوّعها الثقافي، وفي هذا السياق صرّح أن حبّه للتراث الأمازيغي لا يتعارض مع احترامه للغة العربية التي لا يعاديها أبدا، بدليل أنه كان يعشق الموسيقى الشرقية (فيروز، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب) ويدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني؛ إذ رفض الغناء في فلسطين في ظل الاحتلال الصهيوني.

* لعلَّ خير شاهدٍ على علوّ كعبه في عالم الغناء، ترجمة أغنية “أفافا أينوفا” إلى أكثر من 15 لغة في العالم ومنها العربية طبعا! وكذلك المشاركة أحيانا في أداء أغانيه الأمازيغية في العالم من طرف عمالقة الغناء أمثال شارل أزنافور وماكسيم فوريستيي، وعزف ألحانه في المسارح العالمية الكبرى، وفي فضاءات خاصة شاركت فيها أحيانا شخصياتٌ سياسية مرموقة مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

* ترسيم الأمازيغية بموجب تعديل الدستور سنة 2016م كان فرصة لتليين موقفه ولتجديد التواصل مع الجمهور الجزائري، وعلى إثر ذلك أقام حفلا فاخرا بالقاعة البيضاوية بالعاصمة في شهر جانفي 2018م، تبرَّع بعائداته لفائدة الأعمال الخيرية في الجزائر. وعندما هبّت رياح الحراك الشعبي السلمي يوم 22 فيفري 2019 م، رحّب به أيّما ترحيب واعتبره سانحة للتفاؤل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!