الرأي

الملايين التي تساوي صفرا

المعرض البشري المفتوح في ميدان التحرير بالقاهرة، لا يختلف عن المعارض البشرية التي كان يقيمها فرعون الزمن الغابر، الذي كان يُرسل في المدائن حاشرين، ليأتوه بكل ساحر عليم، ليجمع الناس في أيام معلومة وليس يوم معلوم، في تباهي بالكمّ، كما هو حاصل في الحمامات البشرية التي تقام للرئيس المعيّن من طرف النظام خلال الحملات الانتخابية، والكاميرات والفضائيات التي لم تلتفت للشعب طوال سنوات، ولم تلتقط له صورة واقعية واحدة، صارت تقدمه، وهو هائم في الشارع، بمختلف الوضعيات، عبر تصوير بحري وبرّي وجوي، وتتحول إلى موزع بريد، ينقل ويقرأ ما يعتبره عسكر مصر بالرسائل الواضحة، حول ما يسمى تفويض الشعب للسيسي بمحاربة ما يسمى بالإرهاب، وهي صور عاشتها الجزائر في التسعينات عندما كان كل فريق يعتصم أو يقوم بمسيرة، ثم يعدّها حسب هواه، فتتحول الآلاف إلى ملايين، لتتكرّم تقنية “الفوتو شوب”، الآن، وتجعل من القليل كثير.

 ومنذ أن صار افتخار الشعوب بكثرتهم في كل الميادين، وبحديث الملايين والملايير، ذهبت ريحهم، فصار المسلمون يفتخرون بعدد مليار ونصف مليار مسلم، وهم غير قادرين عن توقيف إجرام عشرة ملايين إسرائيلي، ولا نقول يرموهم في البحر، رغم أن القرآن الكريم يقول: “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا”، لتأكيد أن الكثرة لا تعني الغلبة ولا حتى الحق، بدليل أن الكثرة قُرنت في القرآن الكريم بشرّ الأشياء، كما جاء في قوله تعالى،”بل أكثرهم لا يؤمنون”، وقوله تعالى: “ولكن أكثر الناس لا يشكرون”، وقوله: “فأبى أكثر الناس إلا كفورا”، وغيرها من الآيات التي لا تمنح الحق للأغلبية التي تحاول الأنظمة الطاغية أن تستند عليها، إما بتضخيم أرقام الانتخابات من المشاركة إلى الأصوات الداعمة للرئيس، أو من خلال هذه المحتشدات التي يظن السيسي وغيره أنها شرّفت مصر، بينما في الحقيقة أبانت وجها تمنى الكثيرون زواله، منذ تجمعات ميدان التحرير التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، لأن القائد من المفروض أن يدعوا الناس للعمل والنظام، ويستجيبوا له بثورة علمية وعملية، لا أن يبيتوا في الشارع حتى يقوم هو بالدور الذي يتقاضى عليه مرتبه بالجنيه المصري والدرهم الإماراتي، ويتوهمون أنهم يقدمون للعالم المعتكف في المخابر وورشات العمل ومصانع النووي ومراكز الفضاء، دروسا هي أشبه بالمسرحيات الشعبية التي كانت تقام في زمن الشاعر الحسين الجزار في عهد المماليك.

 

عندما أهان جيش جمال عبد الناصر العرب، في نكسة 1967 وجرّهم إلى هزيمة مذلة لم يسبق وأن حصل في التاريخ شبيها لها، أقام عزاء شعبيا لنفسه وقدّم استقالته، ثم دفع الناس للشارع لتطالبه بعدم التنحي، وعاد بعد ساعات ليقول إن الشعب المصري فوضه بمواصلة الكفاح، ويبدو أن حكاية التفويض الشعبي، هي مرض مزمن أورامه شعب أرادوه أن يكون صفرا وتوهّم أنه ملايين.

مقالات ذات صلة