-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الموتى يبحثون عن رحيل إلى مقبرة أخرى

أمين الزاوي
  • 6288
  • 22
الموتى يبحثون عن رحيل إلى مقبرة أخرى

إن المجتمعات التي تعرف كيف تمارس وتعيش ثقافة العزاء بحضارة وصدق هي المجتمعات التي تدرك وبشكل عميق كيف تمارس ثقافة الفرح بحضارة أيضا.

أحدثكم اليوم عن الموت، ودعوني بدءا أقول: إن صورة المقبرة، التي هي مدينة الموتى، في تنظيمها ونظافتها وتهيئتها وصمتها وتوسعها ما هي إلا صورة حقيقية عن مدينة الأحياء.

مثلكم، دون شك، زرتُ كثيرا من المقابر الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وفيها وقفت على قاسم مشترك تشترك فيه جميع هذه الفضاءات الخاصة بالموتى، إنه عامل الفوضى، كل أشكال الفوضى، وتلك في نهاية المطاف صورة عن فوضى عالم الأحياء.

ومثلكم، أيضا زرت عشرات المقابر المسيحية في بلدان أوروبية ووقفت على التنظيم الذي يحكم تهيئة هذه المقابر، فالقبور منظمة في سطور ومربعات دقيقة ومهندسة، وأشجارها ونباتاتها وورودها مقلمة ومهذبة بشكل يدعو إلى القول بأن مَنْ يسكن هذه القبور ينام في راحة ودون قلق، وتلك أيضا صورة عن الثقافة التي تمارسها مدينة الأحياء التي تحترم قيم الموت والميت.

لقد فقدنا كل قيم ثقافة “العزاء” التي من أولياتها: الحكمة والتأمل واحترام لحظة فاصلة بين عالمين، عالم مدينة الأحياء ومدينة الموتى.

في عالم الإنسان لا معنى لقيمة ثقافة الفرح فلسفيا ووجوديا إذا لم تكن مخترقة ب”المحنة” كتجربة حياتية، فالفرح ثقافيا كالعزاء أحدهما يمنح الآخر بعضا من أنفاسه ومن روحه ناره.

في زماننا العربي والإسلامي هذا، أشعر بأن الموت فقد بعده الروحي، فلم يعد حاملا لذلك الغموض والسحرية، ما عادت لحظات الموت تحمل “الرعشة” وما عاد “الموت” يطرح علينا الأسئلة الوجودية التي كان يطرحها قديما، ما عاد الموت يثير الخوف وما عاد يفرض لحظات التأمل والحيرة.

أصبح الموت وكأنه يسقط من السماء كفردة جورب مثقوب، أو يجيء سالكا سبلا كثيرة دون مفاجأة ولا صلاة ولا سؤال.

في زمننا هذا أُفْرِغَ الموت من محتواه الإنساني والحيوي. لقد تحول” الموت” إلى “نهاية” وكفى، حين أفكر في الموت في هذه الأيام، يبدو لي وكأن الناس تَتَمَثَّلُه على شكل «خط وصول” لسباق غريب حيث الجميع يشترك فيه ولكن لا أحد يريد أن يعلن عن مشاركته ولا أحد فيه يريد أن يصل الأول.

في زمن مضى، كان وصول خبر موت عزيز عبارة عن حدث مروع، دوخة.

الطفل الذي كنته، أتذكر صورة ذلك الرجل الذي لم يكن يشبه الرجال جميعهم. كان مسنا قليلا، أو هكذا كان يبدو لي، كان دون ملامح، مرتديا دائما الأبيض في الأبيض، هو وحده كان له الحق في إخبار أهل القرية بنبإ موت واحد منهم.

هذا الرجل الفريد في جلابته البيضاء لم يكن يشبه رجلا آخر، كان يشبه نفسه، لا يساويه إلا ظلُّه.

من بعيد أراقبه، في نظرة حيرة، خوف بالأحشاء، قدمان ترتجفان، كنت أميز في صوت هذا الرجل موسيقى خاصة، لا مثيل لها، الآخرون من حولي، الأطفال مثل الكبار، كانوا يحملون لمنظره ووجوده ذات الإحساس الذي يسكنني.

هذا الرجل الذي يثير الخوف فينا (الخوف ليست الكلمة الدقيقة) كان يضع يده البيضاء اليمنى على أذنه اليمنى ثم يرفع نداءه، صوته كان له طابع خاص، لم يكن مرتفعا ولكنه كان مسموعا من الجميع البعيد كالقريب، لا هو شبيه بصوت المؤذن ولا هو قريب من صوت البراح أو القوال، صوت خلقت حباله ليعلن عن خبر الموت.

كنت، بمجرد أن ألمح ظله في الزقاق أختفي كالبرق، الأطفال الآخرون كانوا يقومون بنفس الشيء لمجرد مروره أمام عتبات بيوتهم، في عيوننا، كان هذا الرجل ذو اللباس الأبيض “صورة تجسيدية للموت”، الموت يمشي على رجليه. الموت مرتجلا، كنا نطلق عليه اسم : الموت.

كنت أستمع إلى نداءاته بخشوع وجوانية مدوخة. حين يجيء صوته يصبح الصمت ملكيا فتلمس قامته عنان السماء.

كان الرجل أكبر من الموت، أقوى منه، ذاك كان شعوري حتى ذلك اليوم الذي رأيت فيه رجلا آخر يعوضه، يأخذ مكانه في شوارع وأزقة القرية معلنا فيه خبر الموت، والمدوخ أن الرجل الجديد كان يذيع موت الرجل الذي كان “الموت مترجلا”.

بكيت على “رجل الموت”، بكيت بحرقة على “الموت” الذي غيبه الموت.

اليوم الإعلانات المبوبة التي تخبر عن الموتى والجنازات والأربعينيات والمكتوبة بلغة باردة، لغة ميتة، ما عادت تثير أثرا كبيرا في قراءتها، عبارات مكرورة وخطاب بارد المفاصل مكتوب ببرانية لا ارتجاف فيها.

اليوم أشعر بأن كثيرا من الدموع المراقة، من قبل البعض في المقابر حول جنازات، لا ملح فيها ولا مرارة في ذلك البكاء. تبدو لي الدموع وكأنما قطرات تسقط من حنفية مكسورة.

في زمن مضى، كان العزاء بصف من مقرئي كتاب الله، رجال بسطاء على وجوههم نور وضياء، يثيرون فينا رغبة مشاركتهم القراءة والترتيل ويزرعون فينا فضيلة السماع وتأمل السماء بكل غموضها.

في جنازات هذه الأيام، هناك فيلق قلق من وجوه لا ترفع عينيها عن عقارب الساعة أو شاشة التليفونات المحمولة، لا يسألون سوى السؤال الوحيد: متى ساعة الدفن.

وإذا ما كان الميت شخصية عمومية، أي سجل تجاري في السياسة، فإنك ستجد نفسك أمام “مجموعة” غريبة في بكائها وفي افتعال حزنها، حزن كاذب، وهي في ذلك لا تبحث سوى عن تمظهر إعلامي، والغريب أن هذا الرهط من الناس، نساء ورجالا، يبكون أو يتباكون على الميت أكثر من بكاء أهله عليه، وهم في هذه المسرحية يذكرونني بمهمات “ندابات” المآتم اللواتي يدفع لهن أجر على البكاء.

أمام هذا البكاء الكاذب، وهذه الفوضى العارمة، وهذا الخطاب المحنط يبحث الموتى عن تغيير مقابرهم، يطالبون بالرحيل إلى مكان آخر.

إن المجتمع الذي لا يعرف كيف يعيش ثقافة عزاء أبنائه لن يتمكن أبدا من السكن في ثنايا ثقافة أفراحه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
22
  • شيهان رضوان

    السلام عليكم
    الحق الحق أن الأستاذ / أمين الزاوي، قد أجاد وصف هذه الحالة الاجتماعية القلقة من حياة المجتمع، ولقد كان عند وعده بضرورة إعادة القراء الفلسفية لقيم المجتمع الحضارية.
    أما الموت وقيم العزاء في مجتمعنا فهي ليست بالضرورة عامة كما وصفها الأستاذ، فقد رأيت بأم عيني في مدينة تلمسان صورة فاضلة لتشييع الموتى، فقد توفي صهر أخي، وانطلقنا لحضور جنازته، ولما لم تكن له ذرية تصدى الجيران لتجهيزه، ولما وصلنا وجدناهم قد توجهوا به إلى المسجد، وعند خروجنا وقف المارة تعظيما للجنازة، وتوقفت السيارات...يتبع

  • بلقاضي

    كعادته الأستاذ الزاوي( أدونيس الجزائر )يكتب , يستفز , حتى في حديث الموت يعري الوجه القبيح للشرقي , ويصفع الوجوه المتسترة بقناع الدين المزيف ويعري مرتزقة القلم ورواد حفلات توزيع الجوائز. لكن أقول للأستاذ : إنه الموت , بزهوره أو بحجرات بسيطة ترمى على المقابر , إنه الموت واحد, .بآيات القرآن الكريم أو بتسابيح الانجيل , إنه الموت وكفى,أطال الله في عمرك أيها الأستاذ

  • najib

    ولهذا اصبح الفرح عزاء و العزاء اشبه بالافراح

  • صفيان

    إلى صاحب التعليق رقم 17 الطاهر
    أنت خارج التاريخ، أعتقد أنك لم تفهم البعد الفلسفي لمقال الكاتب أمين الزاوي، إنزل إلى بلدك و حاول أن تبحث عن قبر جدك أو جد جدك لن تجد له خبرا، مصيبتنا أن الفوضى في المقابر هي الفوضى عند الأحياء
    شكرا للدكتور الزاوي جوهرة الأدب الجزائري و كثر الله منه و من مقالاته

  • ب.جلولي

    كلام رائع وتشخيص دقيق لحال أمتنا العربية والإسلامية اليوم، هذه الأمة التي تتخبط في وحل لا تعرف كيف الخروج منه، لو يقتصر تشييع الجنازة على الأهل والأصدقاء لكان أفضل، فهم المحزونون، أما كثرة الغاشي ففيها ما فيها من السلبيات كما في التعزية كذلك من السلبيات، صار المعزي يقول لمثيله نلتقي عند دار التعزية لندردش شيئا ( نقصر )، والملاحظ أن كثرة العزائين يأتون في المساء حتى ولو كانوا فارغي شغل في الصباح ، يأتون مساء قصد لقاء من لهم بهم شؤون. بارك الله فيكم يادكتور.

  • الطاهر

    اولم يسمح لكا بفتح قبورهم لكي تستمتع وتنبهر بلباسهم الانيق وحليهم الباهض الثمن وتقارنها بقبورنا الناصعة البياض ولتعلم ان ثلثى موتاهم تاكله الافران ويبقى الثلث للمقابر
    فهل غابت عنك هته الحقائق ام تريد ان تخفيها .........يو فاقو بيك

  • عبدالحق صبيان

    كلام جواهر يا سي امين اصبت حقيقة اجتماعية تحيلنا بدورها إلى فراغ حضاري مهول ينبئ بخراب الروح وتحول القلوب التي في الصدور إلى أطلال خربة تنعق فيها أشباح التخلف و شهوات التملك .
    كلامك يلتقي مع مضمون جنازة السيكتور سوى أنه أضحكنا على أنفسنا ببساطة عرضه أما أنت فقد جلدتنا بالكلمات حد الإيلام
    فأبكيتنا على أنفسنا . هكذا نحن يا سي أمين أصبحنا بين رثاء الذات أو هجائها وأحلى ما في هذين الغرضين مرّ . دمت لنا أستاذ امين .

  • zozo

    السلام عليكم
    شكراا على الموضوع القيم صحيح ارجعتنا الى لحضات ت تاملنا فيها
    لحضات الموت التي هي حق على كل نفس ,الشيء الذي اريد ان اضيفه عن تغير الافكار حول الموت الذي اصبح يعتبر شيء عادي هي كثرة الاموات على عكس الزمن الماضي الذي كنا نسمع من وقت لاخر عن موت شخص ما لهاذا تجد الناس تتاثر بموته على عكس اليوم والشيء المتفق عليه هو ان الموت لها مرارة خاصة وكلنا مهما يكن نفكر عن عالم ما بعد الموت الذي هو العالم الحقيقي.

  • hadj mabrouk

    يا استاذ كيف تريد لاموات ان يعرفون معنى العزاء في من حقا مات الا ترى وتحس ان العرب اموات وهم احياء اذا من يعزي من وكيف يعرف الميت طقوس العزاء كما ينبغي

  • فاروق

    بارك الله فيك يا استاذ

  • بدون اسم

    تشخيص واسقاط لواقع فقد فيه كل شئ معناه وجوهره

  • Nabil

    دورة الحياة والموت، دورة بيولوجية، بسيطة وطبيعية، تلعن الشعر الكبرياء وتركل كل الفلسفات التي تجعل الإنسان يضن نفسه سرة العالم. تعاقب الموت والحياة كتعاقب الليل والنهار، أو الخريف والشتاء أو الشباب والشيخوخة، علينا أن نهتم فقط بكيفية خوض غمارها دون خوف، أما ما بعد الموت فلا يهم الباقي إن أكلنا الكلاب أوالدود؟

  • ع. قزوري

    صديق الطفولة
    رائع جدا .....دُمت ذخرا لبلدك ..
    أذكرك أن صاحب اللباس الأبيض ما زال حيا في أربوز

  • تلميذتك

    استحضرت في مقالك وجه أمال بوشوشة وهي تحدثنا، بعينين غارقتبن في دمعهما، عن وردة التي لم تعرفها قط..

  • jaefer

    lah rana ayechine.mota kir mena

  • ahmedabdelbaki

    حتى المقابر الغربية أغرتك ، ولم تسلم منك حتى المقابر الشرقية يا سي الزاوي ...كنا ننتظر منك تذكرا للنهاية التي تصير إليها شأن بقية البشر ، لكن زيارة المقابر عند بعض مثقفينا ن تدخل ضمن ما هو سياحي ليس إلا ...عجبا لمن لا يتعظ وهو في حضرة الموتى .
    العبرة بالبساطة التي ينتهي إليها الميت الذي يتحلل ليصير ترابا لا غير ...وهي الرسالة التي تبعثها المقابر الاسلامية لمن كان له قلب

  • آصف

    شكرا لك سيدي .
    مقالك جميل .. و كأن العفريت كان بجوارك .. عفريت الاحاسيس .
    شكرا لك .

  • البشير بوكثير

    لله درّ أحمد مطر:
    ومنفيون نمشي في أراضينا...
    ونُعرِب عن تعازينا لنا فينا...

  • بدون اسم

    ان المفكر لايقاس بالقدر الذي ينيره للاخرين وانما بمقدرته علي اكتساح ضلمة المجتمع لينصب رايات النور وهذا هو التمايز بين المفكر و رجل الدين .. قدرته علي التعايش مع الضلام وبيئته الطبيعية التى يعيش لاجلها وفى نفس الوقت ينشد للمعانى السامية لامته فبذالك يحترق هو لينير درب الاخرين يبنى صرح التميز والرقي على اكناف جسده الهزيل وبعقله العضيم يحشر في صف العضماء .. ويزهي الجبناء والحركى الخونة الاغبياءدائما اسئل نفسي لماذا مات الشهداء الاجل خونة لايصلحون لشيئ وانما ادركت انها مسئلة عوالم لاغير

  • ام كلثوم

    تطرقت الى نقطة مهمة فى مقالك وهى تغير الطبائع وتحول السلوكات فى مجال العزاءفى وقتنا هدا .ثم ارجعتنا نحن ابناء العقود السابقة الى لحظات الزمن الجميل حيث كانت البساطة والعيش المتواضع هما سيدا الموقف..نعم مازلت ادكر مثل عندنا
    عندما كان يموت احد ابناء المدينة يخرج"البراح" كما نسميه ويطلق
    العنان لصوته ليعلن عن الخبر السىء فكان يسمعه الدانى والقاصى
    وكان بفضله يقدم كل اهالى المنطقة واجب التعزية ..كان العزاء مناسبة يتضامن معها الكل مع اهالى المفقود ...فهل تعود يوما تلك الايام الجميلة...اشك فى دلك

  • محمد مشيد

    الله الله على هذا التشخيص الدقيق والوصف الرائع إن ما قلته لهو الواقع الدقيق والله لقد وفقك الله عزوجل في هذا الموضوع والله إنني لمنبهر كيف أنك عبرت عن ما تختلجه أنفسنا

  • كراوي فتيحة

    هل ذاق بك الحال الى درجة رحيل الموتى من قبورهم تريث وتحدث عن الاحياء اولا