-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

النشر العلمي : من هو أكبر متضرر؟!

النشر العلمي : من هو أكبر متضرر؟!

يقدم النشر العلمي خدمات للباحثين لا حصر لها، من طلبة الدكتوراه والتأهيل إلى كبار العلماء في مختلف فروع المعرفة. وتُبيّن سيرورة النشر أن قائمة المنتفعين من النشر العلمي طويلة، تبدأ بالمؤلف إلى دار النشر التي تتبنى العملية التقنية، وهي أكبر رابح مادي في العملية. أما أكبر المتضررين فهم الخبراء المحكمون للأبحاث قبل نشرها. وبطبيعة الحال، تستفيد بعد النشر أطراف علمية كثيرة من تلك المنشورات.

2.5 مليار دولار وزيادة!

في نوفمبر 2021 نشرت مجلة “نزاهة البحث ومراجعة الأقران” (Research Integrity and Peer Review)  مقالا مطولا بأقلام 3 باحثين، مدعما بدراسات ميدانية وإحصائية عديدة، موضوعه “تقدير تكلفة المدة التي يقضيها الباحثون في مراجعة الأقران”، أي المدة المستغرقة في تحكيم أبحاث الزملاء التي ترسل إلى المجلات الأكاديمية. ويلاحظ المقال أن جهد هؤلاء الخبراء ليس مُثمّنا، وحجمه مجهولا، ونادرًا ما يتم النظر في الطرق البديلة لتنظيم عمل مراجعة الأقران.

وعكف المؤلفون على تقدير المدة الإجمالية والفردية التي يقضيها المحكمون في تقييم الأبحاث المرسلة إلى المجلات الأكاديمية. كم يبلغ عدد تلك المجلات ومقالاتها؟ لا أحد يدري كمّها الدقيق، لكن أقرب التقديرات تشير إلى أن هناك نحو 5 ملايين مقالة صدرت في المجلات المحكمة خلال عام 2020.

كما توجد تقديرات لعدد مراجعات الأقران المرتبطة بالمجلات: يقدر المختصون بصدور نحو 3 ملايين مقال مفهرس خلال عام 2016 تطلب 13.7 مليون مراجعة. وبناءً على ذلك فإن تقدير هذا الرقم خلال عام 2020 حسب المقال المذكور هو حوالي 21 مليون مراجعة، مما يستدعي أزيد من 130 مليون ساعة عمل (أي نحو 150 قرنا!) من المحكمين باعتبار أن المحكم يقضي 6 ساعات في تقييم كل بحث.

أما فيما يخص القيمة النقدية لهذا الجهد فاكتفى المقال بتقديم تقديرات في الولايات المتحدة والصين وبريطانيا بوصفها البلدان التي يوجد بها أكبر عدد من المحكمين. وهكذا، قُدرت مستحقات المقيمين في الولايات المتحدة بـ 1.5 مليار دولار (باعتبار متوسط مقابل الساعة هو نحو 69 دولار)، وفي الصين بـ 600 مليون دولار وفي بريطانيا بـ 400 مليون دولار، إلخ.

تشير المعطيات إلى أن هناك في المجلات الأكاديمية نسبة 45% (من المقالات التي تصلها) لا تتم مراجعتها إذ ترفض بصفة تلقائية. ويتمّ إخضاع الباقي (55%) للتحكيم. وفي الأخير، تُقبل من تلك الأبحاث 30%، وترفض نسبة 25%. هذا يعني أن معدل المقالات المقبولة في آخر المطاف يُقدر بـ 30%، بينما تمّ تحكيم 55% من المقالات التي تصل المجلات.

ولعل القارئ لا يدرك أنه غالبا ما تخضع الأبحاث المرسلة للنشر في المجلات الأكاديمية الجدية إلى جولات متعددة من المراجعات والتقييمات قبل قبولها بصفة نهائية. وتضمّ ​​كل جولة باحثيْن أو أكثر من المقيّمين. ومن النادر أن يتم تعويض المقيمين ماليًا مقابل جهودهم التقييمية… رغم أنه توجد بعض الاستثناءات في الطب والاقتصاد. أما باقي المجلات والفروع العلمية فتعتبر أن أعمال تقييم البحوث المعروضة للنشر جزءا من مهام الباحث ومن الخدمة العلمية التي ينبغي أن يقوم بها.

مراجعة التعامل مع المقيمين

يلاحظ المقال أن أحد قيود دراسة هذا الموضوع يتمثل في أنها لا تراعي عمل أعضاء هيئات التحرير (الذين لا يُعدُّون محكمين). فهذا العمل غالبا ما يتم تمويله من قِبل الجامعات أو معاهد البحث أو الناشرين، وهو في الواقع جزء لا يتجزأ من عملية مراجعة الأقران. وفي هذا السياق، من المفيد الإشارة إلى أن في المجلات المرموقة -التي ترفض جلّ الأبحاث التي تصلها- تتطلب عملية غربلة المقالات المرفوضة وقتا طويلا… علما أنه يتم نشر تلك المقالات (المرفوضة) في نهاية المطاف، في مجلات أخرى.

وقد ورد في عدد جوان الجاري من مجلة “Québec Science” مقال بعنوان “لِنُراجع نظام تقييم الأقران”. وجاء في هذا المقال التشبيه التالي: تخيّل أنه يوجد في مصنع خطّ تجميع عالي التقنية، يتم فيه تصنيع أجهزة متطورة، علما أن عملية التجميع بالغة التعقيد. ولذا تُعدُّ مراقبة الجودة في كل مرحلة من مراحل التجميع خطوة حاسمة تتطلب مراقبين ذوي مهارة عالية. والواقع في هذا المصنع أنه لا يتم دفع رواتب لهؤلاء المراقبين باعتبار أنهم موظفون في مكان آخر! ولذا يطلب منهم مدير المصنع أن يأخذوا القليل من وقتهم للحضور طواعية إلى مؤسسته للتأكد من أن المنتوج النهائي في مصنعه تتوفر فيه كل متطلبات معايير الجودة! المنتوج هنا هو المجلة الأكاديمية والأبحاث المنشورة فيها، والمراقبون في المصنع هم المحكمون في المجلة! إنها وضعية من الغرابة بمكان.

وما أدى إلى هذه الظاهرة هو أنه عندما ظهرت أولى المجلات العلمية خلال القرن السابع عشر، كان هناك تقليد في النشر العلمي يتمثل في تنقيح المقالات، وكان يعتبر شكلا من أشكال الواجب العلمي لدى العلماء. غير أن هذا الواجب اتخذ خلال القرن العشرين أبعادا لم تكن متوقعة فتغيرت الموازين. ومن يسيطر على النشر العلمي؟ كمشة من دور النشر العالمية الاحتكارية، مثل ألسيفير Elsevier، شبرينجر Springer، ويلي Wiley، تيلر وفرنسيس  Taylor & Francis… وهي كلها شركات ربحية ذات هوامش ربح كبيرة جدا.

وحتى ندرك حجم التضخم في المقالات العلمية، نشير إلى أنه من عام 2008 إلى عام 2018، ارتفع عدد المقالات العلمية (التي راجعها المحكمون) المنشورة على مستوى العالم في فرع العلوم والهندسة من 1.8 مليون إلى 2.6 مليون سنويًا. وبالموازاة مع ذلك، لا نجد عدد المحكمين قد تزايد كثيرا إذ قدّرت الإحصائيات عام 2016 أن 20% فقط من العلماء يقومون بـ 80% من أعمال التحكيم وذلك لأن التقييم مهمة لا يجني منها الخبير شيئا إذا استثنينا إثراء سمعته العلمية عندما يشير في سيرته أنه خبير مقيّم في مجلات أكاديمية.

وهكذا، ونظرا للثقل الذي يوضع على قلّة من العلماء في موضوع التحكيم، فمن المنطقي في آخر المطاف أن تسوء جودة التقييم… مع أن هناك من المقيّمين من حافظوا على حسن أدائهم. ففي كثير من الأحيان، وبسبب ضيق الوقت، يُمرّر المراجعون أبحاثا غثّة أو يقدمون لمؤلفيها القليل من التعقيبات المفيدة. ولذلك فليس من المستغرب أن المزيد والمزيد من الأصوات تطالب بدفع مقابل مادي لهؤلاء الخبراء لتحسين وضع النشر العلمي.

لقد صار من الواضح أن ضغوط النشر التي تلقي بثقلها الآن على الباحثين المقيّمين تفرض على المجلات الأكاديمية إعادة النظر في النظام السائد اليوم، ذلك أن هذا النظام صار مختلا اختلالا عميقا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!