الرأي

الهجرة إلى الله.. الفريضة المنسية

سلطان بركاني
  • 2774
  • 0
ح.م

رحل العام السادس والثلاثون بعد الأربعمائة والألف، وها نحن نعيش ساعات خامس يوم من أيام العام الجديد.. هي هذه الحياة، يوم يتلوه يوم، وشهر يتلوه شهر، وعام يتلوه عام.. تتوالى الأعوام وتنقضي الآجال وتُطوى الأعمار، ونحن ـ إلا من رحم الله منّا ـ عن وجهتنا ذاهلون، وفي لجج الدّنيا غارقون، وعلى غفلتنا وتفريطنا مقيمون.

ودّعْنا عاما واستقبلنا عاما جديدا، يحلّ مع الذكرى السابعة والثلاثين بعد الأربعمائة والألف لهجرة نبيّنا محمّد ـ عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام ـ من مكّة إلى المدينة؛ وإن كانت الهجرة لم تكن في شهر محرّم، إلا أنّ الأمّة قد ألِفت أن تستحضر هذه الذّكرى مع بداية كلّ عام هجريّ، وهي ترى الهلال قد طلع على الشّاشات التي لا تكاد تتذكّر النبيّصلّى الله عليه وآله وسلّموسيرته إلا يوما في السّنة، تعيد عرضفيلم الرّسالةفي ليلته، وتُذكّر الرّعية بمنّة أولي الأمر في منح عطلة مدفوعة الأجر بمناسبة رأس السّنة الهجرية؛ بدر لا يلبث سوى ساعات معدودات حتى يأفل لتعود بعده ظلمة الأفلام والمسلسلات، والأغاني والفيديوكليبات.

الإعلام ما دام يسعى لتكريس مبدأ أنّ الدّين ينبغي أن يكون محطّات عابرة وأمرا هامشيا في حياة أمّة الإسلام، فلا نتوقّع منه أكثر من هذه الإطلالات، ولا ننتظر منه أن تكون ذكرى الهجرة محطة مفصلية، يُراجع فيها وجهته ويصحّح مساره ويتصالح مع دين الأمّة وثوابتها وقضاياها.. الإعلام له أولوياته وأهدافه، ونحن مَن ينبغي أن نعرف للهجرة قدرها، ولا ننظر إليها على أنّها حدث كان وانقضى؛ تُوّج بإقامة دولة الإسلام وكان فاتحة لزمان انتهى ومضى.. الهجرة حدث كان وسيبقى إلى يوم القيامة، ليس من مكّة إلى المدينة، وإنّما من كلّ واقع تحكمه العوائد والأهواء وموروثات الآباء، إلى واقع يكون فيه الحكم لله ربّ الأرض والسّماء، هجرة من أوحال المهلكات والموبقات والمعاصي والمنكرات إلى رحاب الطّاعات والقربات، هجرة من حياة التيه والعبث وفقدان الهدف، إلى حياةٍ يكون فيها الهدف بيّنا واضحا، وتظلّ الغاية حاضرة لا تغيب عن الأذهان ولا يطويها النّسيان؛ هجرة لا تشترط فيها مغادرة البلدان، وإنّما يُشترط فيها أن يُهجر الفساد بالجوارح والأركان والقلب والرّوح والوجدان.

إنّ الهجرة بهذا المعنى فرض عين على كلّ مسلم؛ فرضٌ على كلّ مسلم أن يهجر المعاصي، ويهجر أماكن ووسائل الفساد، ويهجر قنوات ومواقع الإفساد.. فرضٌ على كلّ مسلم أن يهجر رفقة السّوء، ويهجر عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وسوء الجوار، ويهجر الغيبة، ويطرد الحسد والبغضاء من قلبه.

الهجرة تعلن في الأمّة أنّه قد آن الأوان لكلّ مسلم يتبرّك بالأضرحة والقبور والمزارات، ويرجو من فيها مع الله قيّوم الأرض والسّماوات، لقضاء الحاجات وكشف الكربات، أن يتوب ويؤوب ويهاجر إلى الله الذي بيده أمر الكائنات.. آن الأوان لكلّ مسلم يقدّم القرابين والنّذور ويضع العطور والبخور عند تلك القبور، أن يتوب ويؤوب ويهاجر إلى الله الذي بيده مقاليد الأمور.. آن الأوان لكلّ مسلمة تطرق أبواب السّحرة وكتبة الحروز والدّجّالين، أن تهجر تلك الأوكار وتهاجر إلى الله ربّ العالمين.. آن الأوان لكلّ عبد مؤمن ألِف النّوم عن الصّلاة أن يهاجر إلى الله ويترك نعومة ودفء الفراش طلبا للذّة ودفء القرب من الله.. آن الأوان لكلّ مسلم مضت عليه السّنوات والسّنوات وهو يمنع الزّكاة أو يخرجها كرها أو يعطيها غيرَ مستحقّيها أن يهاجر إلى الله بماله، ويخرج حقّ الفقراء والمساكين في وقته طيّبة به نفسه كما يخرج حقوق عياله.. آن الأوان لكلّ مرابٍ أودع أمواله في البنوك الرّبويّة من غير ضرورة أن يهاجر بماله منها قبل أن يحيق به عذابٌ من الله في الدّنيا والآخرة.. آن الأوان لمن ألهته دنياه عن القرآن وأغرته نفسه بالأغاني والألحان أن يتوب إلى الله ويهجر الأغاني ويُقبل على كلام الواحد الديان.. آن الأوان لإخواننا الشّباب أن يهاجروا من الملاهي ومخادع الأنترنت، إلى المساجد والمعامل والمكتبات.. آن الأوان لفتياتنا أن يهاجرن من عالم الموضة والخِرق والمساحيق، إلى رياض العفّة والطّهر والعفاف

 

ما من مسلم أيا كان واقعه وأيا كانت حاله، إلا وهو معنيّ بالهجرة إلى الله، عملا بقول النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، قبل أن يأتي عليه حينٌ تهاجر فيه روحه من جسده إلى جنّة ونعيم، أو إلى نار وجحيم.

مقالات ذات صلة