الجزائر
من يوقف الغش في المذكرات ومسابقات التوظيف الجامعية؟

الوجه الآخر للفساد الذي ينخر الوسط الجامعي!

الطاهر دحماني
  • 3953
  • 18

عطفا على ما سبق عرضه في المقالين السابقين، المنشورين في العدد/6225. الصفحة 17، من يومية الشروق. الصادرة في 09/07/2019. والموسومين تواليا بعنوان: (رحلة البحث عن منصب أستاذ في الجامعة: معركة ليّ الأذرع بين الكفاءات وعصابات التوظيف!). و(ظاهرة السرقات العلمية في البحوث والمذكرات الجامعية/ تفاقم الغش واللصوصية لافتكاك الشهادات الجامعية). واللذين أحدثا ردود فعل كثيرة، ومتباينة بين المادحين والقادحين. ويتجلى ذلك في عشرات التعقيبات التي تلقيتها من بعض القراء والأكاديميين الذين تصفحوا مضمون الموضوعين، وتفاعلوا مشكورين مع محتوياتهما. وقد ارتأيت العودة، مرة أخرى إلى معالجة متأنية لتلك المشاكل التي تهز الوسط الجامعي. مع مزيد من النقاش والتوسع والإثراء… ولعل في ذلك ما توفي الموضوعين، بعض ما غاب عني التطرق إليه سابقا،عن غير قصد، بما يستحقانه من تحليل ونقد وعمق.

أولا / لا تعقيب لي على التعقيب الوجيه للأستاذ الدكتور علي ملاحي:

صديقنا الأستاذ بجامعة الجزائر(2)، في قسم اللغة العربية وآدابها الشرقية، كتب يقول بالحرف:(…أشاطرك الرأي في كل ما ورد في المقال. وهو واقع مر نعايشه ونتألم لأجله في صمت. وأجنحتنا مكسورة. وشخصيا، تصديت لحالات غش كثيرة في هذا الموضوع الذي أضحى مصدر قلق وإزعاج. إذ أصبح يشار إلينا بأصابع الريبة والشك، من بعض المتنفذين هنا وهناك. ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، على دراية بالتجاوزات المقصودة. ولم نجد من يساندنا في مسعانا لإحقاق الحق وإبطال الباطل. وانتهى بنا المطاف إلى الدخول في صدام حاد، ومضايقات خانقة، مع بعض المسؤولين الإداريين. وطالبنا بفتح تحقيق موسع في ما يحدث من تجاوزات مثيرة، وتعسفات خطيرة، تخص الغش الحقير في بعض البحوث والمذكرات.
لكن الغش يتواصل، ويتمادى الغشاشون في حقارتهم. وهو ما يجعلنا نهيب بكل الصادقين من الإعلاميين، والباحثين، والإداريين، وكل المخلصين في الوسط الجامعي، إلى استئصال الظاهرة من جذورها. والمشكلة تكمن في اللجان والمجالس العلمية المتقاعسة في الحد من الغش. والغريب أن التحايل والتزوير، أضحى يشمل بعض مسابقات توظيف الأساتذة المساعدين، حيث أذكر حالة طالب ممتاز، أشرفت عليه، وحصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه، منذ أكثر من أربع سنوات. وحصد عدة جوائز علمية مرموقة من جامعات خليجية. وصدرت له عدة كتب ودراسات وبحوث…لكنه لم يوظف بعد، ليس لضعف كفاءته، بل لضعف أكتافه…وقد وصلت قضيته إلى مكتب الوزير السابق. لكنه ما زال إلى اليوم دكتورا بطالا. والحالات المشابهة كثيرة جدا، وتنسحب على مختلف التخصصات. والمشكلة تقتضي مراجعات جذرية صارمة ودقيقة. وإلى ضخ دماء جديدة في الوسط الجامعي من الإطارات المخلصة الغيورة النزيهة.) شكرا على المساهمة، دون تعليق.

ثانيا / الدكتور خالد سعد الله يدعو إلى الحماية والتصدي لهذا التلوث الخطير:

إن هذا الأكاديمي المعروف بكتاباته الإعلامية القيمة والجادة، رغم أنه يشغل منصب أستاذ الرياضيات بالمدرسة العليا للأساتذة بالقبة. سبق له كتابة مقال في يومية الشروق، بتاريخ 10/10 /2018. يقول فيه: (إن التحايل والتزوير، تعدى حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية. وصار يركز أكثر فأكثر على اختصاصات تطبيقية كالبيولوجيا والكيمياء. ويذهب إلى حد تزييف حقائق التجارب الميدانية، من قبل باحثين لامعين، لبلوغ أهداف دنيئة، كتلبية رغبة شركة، أو خدمة مؤسسة تجارية. مثلما حصل سنة 2017 مع الباحثة الفرنسية، الدكتورة Anne Peyroche. والتي قامت بفضحها مجلة (Expresse). بتاريخ: 08/10/2018. رغم أنها مسؤولة سامية في محافظة الطاقة الذرية. وكانت مرشحة لرئاسة المركز القومي للبحث العلمي (CNRS). ويختم مقاله بقوله: (أسباب التزوير والسرقات العلمية متشعبة، وهي منتشرة في كل الأوساط. ومن واجبنا جميعا: حماية وسطنا الجامعي من هذا التلوث الخطير. واتخاذ التدابير الصارمة للحد منه). وبعيدا عن التهويل والتهوين، يؤكد لنا الأستاذ سعد الله، في ثنايا مقاله العلمي القيم، على ثلاث حقائق مرة، وهي كما يلي:
1/ أن ظاهرة السرقات العلمية، وقضايا التزوير والسطو والاحتيال… لم تسلم منها حتى المجتمعات الغربية المتطوّرة علميا، مقارنة بمستوى البحث العلمي في أوساطنا الجامعية.
2/ غياب الوازع الأخلاقي، يتسبب في دفع ضعاف النفوس، ومرضى القلوب والضمائر، إلى ممارسة السرقات العلمية مع سبق الإصرار والترصد. رغم أنهم برتبة دكاترة باحثين.
3/ يشدّد أستاذنا على ضرورة حماية الوسط الجامعي من تبعات هذا التلوث الخطير. كما يشدّد على إتخاذ التدابير اللازمة للحد من ضرر السرقات العلمية. لكنه لم يفصل في ذكر أهم آليات الحماية المطلوبة. ولم يشر كذلك إلى التدابير الصارمة الكفيلة بتخليصنا من ويلات البلاجيا وأخواتها. والتي نرى أنها ترتكز في مجملها، على ثلاثية البناء الأخلاقي والقيمي للباحثين. وإسناد مسؤوليات تسيير المؤسسات الجامعية إلى الكفاءات النزيهة. وسن قوانين ردعية صارمة لقطع دابر الغشاشين، وقمع اللصوص والمزورين، مهما كانت مستوياتهم ومواهبهم ومواقعهم، دون أدنى شفقة ولا رحمة. لأن ما بني على باطل فهو كله باطل. وفي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح. واللصوصية جريمة خلقيا وقانونيا ودينيا.

ثالثا / مقاربة الأستاذ الكاتب الدكتور بشير ضيف الله لحلحلة البلاجيا:

في حديث مشوق مع هذا الشاعر، والباحث الأكاديمي… لمست تأثره العميق بخطورة البلاجيا، والقص واللصق المتفشي بين طلبتنا من الابتدائي إلى الجامعة. فهو يرى عدم جدوى مناقشة مذكرات الماستر بشكلها الحالي. ومن خلال تجربته، يوجد فيها ما يقارب 80% من السرقة العلمية. أما رسائل الدكتوراه الخاصة باللغات والآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية، فهي لا تخلو من البلاجيا التي تتحمل وزرها لجان المناقشة العلمية، التي تطغى عليها المجاملات، والحميميات، والصداقات…وكل ما لا يشرّف أخلاقيات البحث العلمي. كما أن التكنولوجيا الحديثة توصلت إلى اختراع برمجيات متطوّرة جدا، يمكنها كشف نسبة السرقة العلمية بيسر وسهولة. وهي البرامج التي تعتمدها بعض الجامعات الخليجية حاليا مثل قطر والإمارات. أما بالنسبة لمسابقات التوظيف، فقد ذكر محدثنا على ذمته أن أغلب المناصب تفتح مسبقا وخصيصا على مقاس فلان وعلان. وللأسف الشديد، فالمعيار الفاصل والأقوى في منح المناصب، إنما هو سلطان المال القذر. والشواهد الدامغة كثيرة، وواضحة للعيان في عديد الجامعات، يعرفها الدكاترة الشرفاء البطالون، وهي كالشمس في رابعة النهار. ولا شك أن الوزارة الوصية على علم بحجم هذا الفساد الكارثي الذي يدمّر الجامعة. لكنها لا تتحرك ولا تبادر بتسليط أقسى العقوبات على الغشاشين، لأن يد العصابة ممدودة في كل الاتجاهات، والحل ليس غدا، ولا بعد غد. وأمام الشرفاء مشوار شاق وطويل من النضال والتضحيات، والصبر، والمعاناة، والجهد، والعرق…!

رابعا / الرهان القوي لكنس الغشّ والفساد، هو البناء القيمي والأخلاقي للإنسان:

الفساد الذي ينخر الوسط الجامعي، هو إمتداد طبيعي لمنظومة الفساد الموجود في دواليب الدولة والمجتمع. ومهما تباينت الرؤى والمقاربات في زوايا النظر المتعلقة بوضع تشخيص دقيق لتوصيف الخلل. وتقديم وصفات العلاج الممكنة والمتاحة. فإن الإجماع يكاد يكون تاما حول ضرورة بناء الإنسان. والرد الحاسم على سؤال هوية مواطن المستقبل الذي نريده لهذه الجزائر. ورهان الحراك الجامعي، الذي هو سليل الحراك الشعبي السلمي المبارك. كما تعكسه أصداء المسيرات الطلابية الأسبوعية الحاشدة، تتمحور رسالته حول تكريس أسس التغييرالجذري الشامل، وبسط الإصلاح المتدرج والعميق،ومقاومة عصابات الفساد، ومحاسبتهم، ومراقبتهم، وعزلهم…وتبقى أعباء ذلك البديل الحضاري الأسلم والألزم، مسؤولية ثقيلة يتقاسمها الجميع. وهي معركة تبدأ من الأسرة، إلى الروضة، والمدرسة، والمتوسطة، والثانوية، والجامعة، والمسجد، ووسائل الإعلام، والمجتمع. والحرص على عدم غياب وتغييب المعامل الأخلاقي في كافة مناحي ومعادلات حياتنا، بدءا من العلاقات الأسرية، إلى العلاقات الدولية.

لقطات.. مشرقات:

اللقطة الأولى: مازال في هذا البلد كثير مما يبعث على الفرح والارتياح… وعلى سبيل المثال، لا الحصر: البكاء المر للاعبنا الدولي بغداد بونجاح، عقب تضييعه غير المتعمد لضربة جزاء ضد منتخب كوت ديفوار. حيث شوهد وهو يذرف دموعا حارة صادقة. وكان يبكي كالطفل بحرقة وأسف، وكأني به ارتكب جرما شنيعا لا يغتفر. تلك هي دموع الولاء للألوان الوطنية. فليعتبر كل الرويبضات والحثالات وكل سراق الوطن والشعب، مع سبق الإصرار والترصد… دون ندم، ولا حسرة وألم، على ما أحدثوه من مناكر وفساد…!

اللقطة الثانية: لفتة راقية تلك التي أقدمت عليها جامعة تلمسان خلال الأسبوع الماضي. حيث نظمت مناقشة علمية رمزية للطالب الدكتور/ميلود براكة. من مواليد 09/11/ 1987 بسعيدة. والذي عاجلته المنية قبل موعد مناقشة أطروحته في قسم التاريخ، الموسومة بعنوان (الاتجاهات الاستقلالية في الحركات الوطنية المغاربية). تحت إشراف الأستاذ الدكتور/ غوثي بن سنوسي الذي أشاد بمناقب هذا الباحث. وقد أنابت عن الفقيد الطالبة الدكتورة/آيت بالقاسم. وتم منح المرحوم شهادة الدكتوراه. مع التوصية بطبع رسالته.

اللقطة الثالثة: غداة تنفيذ ضربات الترجيح في مباراة فريقنا الوطني مع كوت ديفوار، ظهر المدرب جمال بلماضي، جالسا على دكة البدلاء، وهو يحتضن اللاعب الشاب يوسف عطال، ويعانقه بحرقة… وكلاهما يذرف الدموع بغزارة، ولعدة دقائق… وهي بدورها لقطة مشرقة تترجم قمة العمق الإنساني، والحس الوطني الأصيل، وتكشف غيرة ومعدن الرجال المحبين للجزائر دون مقابل. وهذه لقطة متميزة من ثمرات الحراك الرياضي المشهود.

اللقطة الرابعة: خبر اعتناق لاعبنا الدولي ديلور للإسلام، وتغيير إسمه إلى (محمد). وإصراره على مطالبة الفيفا بتغيير كتابة جنسيته من الفرنسية إلى الجزائرية. وكذا مطالبته باستبدال العلم الفرنسي بالجزائري على موقعها الرسمي. هذا الخبر الحضاري، لا ينبغي أن يمر علينا مر الكرام. فهو لقطة مشرقة بامتياز، يستحق صاحبها التهنئة والتكريم. وسيكبر في عيون عشاق الخضر أكثر، لو يتكرم بنزع آثار الوشم المقزز الظاهر على ذراعيه.

اللقطة الخامسة: شوهد اللاعب بغداد بونجاح، وهو يبكي بحرقة بالغة، بعد تضييعه ضربة جزاء.و ظل يبكي، ويلح في الدعاء وطلب الفرج لفترة طويلة. معبرا بذلك عن خيبة أمله، ومدى أسفه على خطئه الفادح، وغير العمدي…وبعد دقائق معدودات، تأتي المكافأة الربانية العادلة لهذا اللاعب الخلوق، وتتتحول دموع حزنه إلى إشراقات فرح وبهجة وسرور… عقب تحقيق زملائه التأهل إلى نصف نهائي كأس الكاف بجدارة وإمتياز.

مقالات ذات صلة