الرأي

الوحدة الإسلامية بين الواقع والأوهام

سلطان بركاني
  • 2002
  • 13

الوحدة الإسلامية حلمٌ يراود كلّ مسلم صادق يعيش شيئا من همّ دينه وأمّته، ويحمل في نفسه توقا وفي روحه شوقا إلى اليوم الذي يرى فيه أمّة الإسلام أمّة واحدة مهيبة الجانب، يُحسب لها ألف حساب بين الأمم، لكنّ الحقّ يقال إنّ واقع الأمّة أصبح من الصّعوبة والتّعقيد بمكان ما عادت تنفع معه الأماني وزخارف الكلام، ولا الخطابات والكتابات التي تحلّق في سماء الأحلام والأوهام.

مشروع لا يتحقّق بالأحلام

سفينة الأمّة ومنذ سقوط آخر خلافة جمعت المسلمين، وهي تمخر عباب بحر متلاطم الأمواج، يتربّص بها القراصنة من كلّ جانب؛ لم تجتمع على ربّان، ولا على خارطة ترسم لها طريقا واضحا يصل بها إلى برّ الأمّان، ربابنتها انشغلوا بجمع الأموال وتكديس الثروات والتقرّب إلى القراصنة لضمان بقائهم، وكثير من ركّابها انشغلوا بمصالحهم الشّخصية عن وجهة السّفينة وعمّا تتعرّض له من أخطار، والمهتمّون بوضع السّفينة تفرّقوا أحزابا وطوائف وشيعا، كلّ طائفة تريد أن يجتمع الركّاب على ربّان منها، وتسير السّفينة وفق خارطتها، حتى ولو كانت الخارطة خارطة لا قبل لسفينة الأمّة بها على مدار 14 قرنا من الزّمان؛ بعض هذه الطّوائف تمدّ حبالها إلى قراصنة الشرق الشيوعيين، وبعضها إلى قراصنة الغرب الصليبيين. 

هذا هو الواقع الذي تعيشه أمّة الإسلام، وهو واقع يُفترض أن يَستحثّ المخلصين من هذه الأمّة لفقهه بكلّ تشعّباته، وفقه الواجب فيه على ضوء نصوص الشّرع، لكنّ الذي حدث أنّ بعض المنتسبين إلى الفكر والكتابة، مع تسطيحهم للواقع وقلّة فقههم لنصوص الشّرع، أبوا إلا أن يطرحوا   موضوع الوحدة طرحا ضبابيا يسبح في عالم العواطف الجياشة والأحلام الجميلة، ويروّج لوحدة لا يمكن أن تجد لها طريقا إلى الواقع، وحدة غير منضبطة بالشّرع، يُغضّ فيها الطّرف عن خلافات تتعلّق بمصادر التلقي وأساسيات الدّين والعقيدة، ويُلغى معها مكمن خيرية الأمّة المتمثّل في واجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر داخل الجسد الإسلاميّ، يُلغى هذا الواجب ليُفسح المجال للطوائف الباطنية التي لم يعرف لها التاريخ ولا الواقع إلا التعصّب للمصالح الطّائفية الضيّقة، لتخرق سفينة الأمّة، أو تفرض عليها الوجهة التي تريد وفق الخارطة التي ترسم. 

أكثر من 9 عقود والأمّة تسمع الخطابات وتقرأ الكتابات التي تدعو إلى الوحدة ونبذ الفرقة، وحالها في التفرّق والتشرذم لا يزداد إلا سوءًا، ومع ذلك يصرّ المتصدّون لموضوع الوحدة على الحديث عنها بترفٍ فكريّ يحلّق في المثاليات البعيدة عن الواقع ويركّز على الهدف والوجهة ولا يرسم الطّريق. 

إنّ المفكّر النّاجح ليس هو من يكتفي ببيان الحال التي ينبغي أن يكون عليها النّاس، ولا من يكتفي بالإغراق في الحديث عن الواقع ونقده ومحاكمته، وإنّما هو من يفكّر ويُجهد فكره في رسم الجسر الواضح الذي ينقل النّاس من الواقع المرفوض إلى الواقع المأمول. 

 

عقباتٌ في طريق الوحدة

لا شكّ أنّ المنظّرين لوحدة الأمّة لا يقصدون وحدة على أساس موقع جغرافيّ أو لغة، لأنّ وقائع التاريخ القريب والبعيد وتجاربَه أثبتت أنّ هذه الأمّة لا تجتمع إلا على الدّين، كما قال ابن خلدون رحمه الله: “العرب لا يجمعهم إلا الدّين، فإذا تركوه فلا جامعَ لهم“.

وهنا تبرز الحاجة الملحّة إلى معرفة السّبيل إلى هذه الوحدة في ظلّ هذا الواقع الذي افترقت فيه أمّة الإسلام إلى دويلات تفصلها حدودٌ مقدّسة تنشب بسببها العداوات وتعلن حالات الاستنفار والتأهّب للحرب، دويلات يتآمر بعضها على بعض، لكلّ منها حاكمٌ لا يمكن أن يقبل رأي حاكم دويلة أخرى فضلا عن أن يخضع لأمره، أكثر هؤلاء الحكّام عقدوا الولاء   سرا وجهراللمشاريع الشّرقية الشّيوعية أو الغربية الصّليبية، وقعدوا جميعاً عن نصرة الإسلام وقضاياه.

ما السّبيل إلى وحدة الأمّة ونصرة قضاياها في ظلّ اختزال الجهاد فيمقاومةتجيز لأهل كلّ بلد الدّفاعَ عن أنفسهم وتمنع غيرَهم من المسلمين النّفيرَ لمساعدتهم، ومع ذلك يُتآمر عليها ويخطّط لإنهائها؟!

ما السّبيل إلى وحدة الأمّة في ظلّ تكاثر الطّوائف التي وصلت الخلافات بينها إلى المصادر الأساسية ومقتضيات الشهادتين، وقضايا جوهرية في الدين كالتّوحيد والاتّباع والحاكمية والولاء والبراء؟

من غير المعقول أن يقال إنّ الدّين يسع كلّ هذه الخلافات، فنكون أمام دين يجمع بين المتناقضات، بل أمامياسقجديد يجمع كثيرا من خزعبلات الديانات المحرّفة التي تسلّلت إلى بعض الطّوائف.

كيف يمكن أن تجتمع الأمّة على ربّان واحد، في الوقت الذي يَشترط جمهور الأمّة أن يكون الربّان خليفة جامعا للشّرائط، يتمّ اختياره بالشّورى، بينما تقول طائفة منها إنّ الخلافة يجوز أن تكون ملكا متوارَثا، يلتزم فيه الرعية بالسمع والطاعة للوارث ولو بدّل الدّين ووالى الصّهاينة والصّليبيين، وتقول طائفة أخرى إنّ خليفة المسلمين وربّان السّفينة الذي تجب طاعته موجود منذ أكثر من 11 قرنا من الزّمان، ولكنّه مختفٍ عن النّاس، لا تُرى له صورة ولا يُسمع له صوت، وله نائب ينوب عنه هوالوليّ الفقيهالذي تجب على الأمّة طاعته في فترة الغيبة كما تجب طاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم؟!

والأهمّ من هذا، كيف يُرجى للأمّة أن يلتئم شملها مع طائفة منها لا تجتمع مع جمهور المسلمين في مصادر التلقّي والتّحاكم، وترى أنّ الوحدة لا يمكن أن تتحقّق إلا إذا قبلت الأمّة تأويلاتِها الباطنية للقرآن وتبنّت رفضها للسنّة التي رواها الصّحابة عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلّموتناقلها التابعون وحوتها مصادرُ الإسلام، وأقرّت القول بكفر ورِدّة الخلفاء الرّاشدين والصّحابة المرضيين، والقول بتفضيل الأئمّة على الأنبياء والمرسلين سوى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّمووصفهم بصفاتٍ ليست إلا للخالق سبحانه، كعلم الغيب، وانتفاء السّهو والنّسيان، وإجابة الدّعاء وتحقيق الرّجاء، مع أنّهم رضي الله عنهمكانوا يبرؤون إلى الله من هذه العقائد؟هل يمكن أن تجتمع الأمّة مع هذه المتناقضات التي لا يجوز بأيّ حال من الأحوال النّظر إليها على أنّها خلافاتٌ هيّنة يمكن أن يَعذِر بعضُنا بعضا فيها؟

 

وحدة أم تعايش؟

لو كان كتّابنا المتصدّرون للحديث عن الوحدة يدعون إلى تعايشٍ بين هذا الطّرف وذاك بما يفرضه الواقع المشترك وعلى ما درجت عليه أمّة الإسلام في مختلف مراحل تاريخها، لكان الأمر مقبولا، لكنّهم يتحدّثون عن وحدة تقتضي المحبّة والموالاة والتعاون والتآزر لإقامة الدّين والتّمكين له، وتقتضي فوق هذا وذاك غضّ الطّرف عن تلك الشّذوذات التي تهدّ بنيان الإسلام من أساسه، ويرون أنّ إنكارها وزجرَ أصحابها هو تفريقٌ للأمّة المسلمة! متناسين أنّ هذه الأمّة ما حازت الخيرية إلا بالتوحيد والوحدة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لذلك قال اللهجلّ وعلافي وصفها: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ))، ووصف شرّ أمّة فقال: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون)).

 

التاريخ لا بدّ أن يعيد نفسه

لقد مرّت بأمّة الإسلام قرون متطاولة وهي تحت مظلّة واحدة، كانت الطّوائف المنتسبة إليها تعيش تحت رايتها وتعامَل معاملة المسلمين، ولا يُتعرّض لها، إلا إذا بدرت منها إساءة إلى ثوابت جمهور الأمّة، أو بدرت منها خيانة وتواطؤ مع أعداء الملّة والدّين لحساب مكاسب طائفية ضيّقة، فكان الخيار الوحيد وقتها هو التّأديب والرّدع، وقد تعرّضت الأمّة خلال هذه الفترات لحملات مركّزة من التتار والصليبيين كادت تمحوها من الوجود، لكنّها مع ذلك لم تدعُ أبدا إلى غضّ الطّرف عن جنايات الطّوائف الباطنية في حقّ الإسلام، ولم تستعِن بتلك الطّوائف في أحلك الظّروف وأخطرها، لأنّها تفقه جيّدا قول الله جلّ وعلا: ((لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين)).

أمّة الحقّ والعدل والجهاد يمكنها أن تستوعب كلّ الطّوائف وتتعايش معها، شريطة أن تعرف كلّ طائفة حجمها وتلزم حدّها ولا تتطلّع إلى دور أكبر من حجمها وتشرئبّ إلى قيادة سفينة الأمّة ورسم خارطتها وتحديد وجهتها.

 

وللحديث بقية بإذن الله.

مقالات ذات صلة