-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

انتعاش أسعار البترول.. نقمة لا نعمة!

انتعاش أسعار البترول.. نقمة لا نعمة!

وأخيرا استبشر الجزائريون خيرا ببروز مؤشرات تعافي السوق النفطية، حيث تخطّى سعر خام البرنت مؤخرا 80 دولارا لأول مرة منذ ثلاث سنوات على الأقلّ، في ظل زيادة الطلب العالمي على الطاقة، إثر تقدّم بوادر تجاوز الركود الاقتصادي الناجم عن جائحة فيروس كورونا، لكن ما ينبغي التنبه إليه مبكرا هو أنّ هذا التفاؤل سيكون سلاحًا ذا حدّين.

إذا كانت الثروات الطبيعية، وفي مقدّمتها البترول والغاز، نعمة جليلة لجميع البلدان المُنتِجة لها، خاصة الريعيّة منها، باعتبارها المورد الرئيس لقوت سكانها، فإنّ تلك الدول تضطرب اجتماعيّا وسياسيّا باهتزاز أسعارها في الأسواق المتقلّبة، وقد يؤدّي الوضع الطارئ إلى ثورات شعبيّة وسقوط أنظمة هشّة البنيان، سرعان ما يفضحها شحُّ الريع الذي لا فضل لها في موارده، بل إنها لم تُحسن على مرِّ عقود استغلاله من ثروة زائلة إلى فرصة تنموية واعدة تصون حق الأجيال، والأسوأ أن تتحوّل في كثير من التجارب العربية إلى مال مستباح للفساد والنهب وبيع السيادة الوطنية للشركات الأجنبية.

نستحضر مثل هذا الكلام الذي لا يُخفى عن أذهان الجزائريين، وقد عايشوا بمرارة انهيار سوق النفط منتصف ثمانينات القرن العشرين، لتستيقظ البلاد على أحداث 05 أكتوبر 1988، وما أعقبها من مديونية خارجية مكبِّلة وإعادة جدولة مع المؤسسات النقدية الدوليّة، ثم املاءات قاسية باسم “الإصلاح الهيكلي”، شرَّدت مئات الآلاف من العمال وأغلقت شركاتٍ كبرى.

وإلى وقتٍ قريب منذ مطلع 2015، تكرَّرت ذات المحنة الماليّة وإن بفوارق معتبرة لأسبابٍ كثيرة، فقد وجدت الخزينة العمومية نفسها عاجزة عن تسديد ديون موظفي الدولة ودفع نفقات المشاريع للمقاولات، لولا اللجوء إلى الاستدانة الداخلية، عن طريق التمويل غير التقليدي، بتعديل قانون النقد والقرض الذي ظل عصيّا عن المراجعة منذ 1991، ولم تفلح خطاباتُ البحبوحة المالية في مقاومة الأوضاع المستجدّة، عقب الانهيار الذي كان متوقعًا قبل سنوات، حسب خبراء ومسؤولين كبار في الدولة، لكن أصحاب القرار صمّوا آذانهم وعقولهم عن صرخات التحذير، لينغمسوا في التسيير الشعبوي بعنوان السلم الاجتماعي، حتى يحفظوا مواقعهم في السلطة، دونما اكتراث بمستقبل الشعب، أو بسبب العجز عن الإدارة الراشدة لمقدرات البلاد.

في كلِّ الأحوال، فقد دفعت الجزائر مجددا الفاتورة ولا تزال تتحمّل عبء الأخطاء الكارثيّة، بتآكل احتياطي الصرف وتخفيض قيمة الدينار، لترتفع معدلاتُ التضخّم وتنهار القدرة الشرائية لأغلب الفئات الاجتماعية، وها هم الجزائريون يعيشون مرة ثانية كابوس الأفق المجهول اقتصاديّا، مع استمرار طبع النقود دون تغطية إنتاجية وحتّى إمكانية السقوط مُكرهين مستقبلا في فخ الاستدانة الخارجية، رغم تعهدات المسؤولين بتجنبها.

لماذا نقدّم هذا الاستعراض السردي في معطيات يعلمها الناس جميعا؟ حتّى نؤكد للسلطات العليا ولمواطنينا بمختلف شرائحهم أنه من غير المسموح أبدا الاطمئنان إلى مورد طبيعي على أهمّيته، وعلينا الآن أخذ العبرة بعد نصف قرن من الاقتيات على الريوع الآيلة للزوال.

نذكّر بمرارات الماضي والحاضر، لأننا مقبلون، وفق إعلان الحكومة، على زيادات في أجور العمال، وإذا كان ذلك حقّا مشروعًا وحتميّا في الظرف الراهن، فإنه من الإلزامي مرافقته بالتدابير الحكيمة لضمان التوازنات الماليّة، حتى لا يشكّل القرار ضغطا على خزينة الدولة وإرهاقا للمستهلِك من دون فائدة عمليّة.

نعم، نحمد الله اليوم أن سوق الطاقة تنتعش تدريجيّا، غير أنّ ذلك ينبغي أن لا يدفع بنا مجددا إلى الإتكاليّة السلبيّة والركون إلى مداخيل الطاقة، بل حان الوقت ليقدِّس الجزائريون في كل المواقع قيم الوقت والعمل والإنتاج والإبداع والتفوُّق والإتقان، متطلعين بروح تنافسية طموحة وعزيمة فولاذيّة إلى تغطية السوق المحليّة، قبل اقتحام الأسواق الإقليمية قريبًا، وما يمنعهم وهم يملكون كافة مقومات النهوض والريادة؟

بالمقابل، فإنه يتعيّن على السلطات العمومية مواصلة برنامجها بنجاعة لتحقيق الإنعاش الاقتصادي المرجوّ، خاصة ما تعلّق بتكريس الاستثمارات الخلاقة المولّدة للثروة وتنفيذ رهان رفع الصادرات خارج المحروقات، حيث بدت سريعًا مؤشراته الإيجابية في الأفق، مع تركيز الاهتمام على الفلاحة بكل أنواعها ومحاصيلها، خاصة بالجنوب الكبير، حيث تنام الأرض على أكبر احتياطي للمياه الجوفية عالميّا، وهي ثروة فعليّة يُفترض تحويلُها بالإرادة والتخطيط إلى ثورةٍ زراعيّة اقتصاديّة، تُغنينا مستقبلاً عن الذهب الأسود بنظيره الأخضر، فضلاً عن ترقية الصناعات التحويليّة.

إنها فرصة الجزائر اليوم لتكون أزمة الألفية الثانية هي آخر محطة قطيعة في تبعيتها للمحروقات، ولم يعُد أمامنا من مسوّغ للمراوحة في موقع الدولة الريعيّة والتحويلات الاجتماعية، بل علينا صناعة القيمة المضافة في الاقتصاد عوض الإنفاق العام، ثم الانطلاق بقة نحو السوق الإفريقية الحرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!