-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الحلقة الثالثة والأخيرة

انطباعات عائد من جوهرة الساورة 3/3

انطباعات عائد من جوهرة الساورة 3/3

تحدثنا في الحلقة الثانية، عن افتتاح الملتقى من طرف السيد ساعد شنوف والي ولاية بني عباس، وعن مدينة إڤلي التي احتضنت أشغال الملتقى، وذكرنا محاور الملتقى المخصصة لمظاهر الثقافة الأمازيغية في هذه الولاية، ثم عرّجنا على توصيات الملتقى المقدمة من أجل ترقية اللسان الأمازيغي الشلحي والحفاظ على موروثه الثقافي المتنوع، وربطه بألسن الأمازيغية الأخرى، عن طريق التوأمة مع الولايات.

التكامل بين مكوّنات الهوية الجزائرية
زيارة زاوية سيدي المدني بالحاج

قام المشاركون في الملتقى بزيارة زاوية سيدي المدني بن الحاج القادرية (من القرن19م)، وهي تابعة لزاوية سيدي عبد الله بن الشيخ الموجودة في ڤرزيم. استقبلنا السيد بشير بلمدني محافظ خزانة المخطوطات، وقدّم لنا عرضا وافيا عنها، ذاكرا أن مكتبة الزاوية تحتوي على حوالي 371 مخطوطا، قامت الدكتورة فاطمة حموني (من جامعة أدرار) بوضع فهرسة لها، صدرت سنة 2019م عن دار الكتاب العربي بالعاصمة الجزائرية. وشملت هذه المخطوطات فروع المعرفة في مجالات عدّة، وخاصة العلوم الشرعية والفقهية. ومن كنوز هذه المكتبة، مخطوط كتاب “الدرر المكنونة في نوازل مازونة”، ومخطوط “حاشية بن حمدون على شرح المكودي”، وهو محلّ الدراسة والتحقيق حاليا من طرف الدكتور أحمد الهاشمي السامرائي بالعراق، ومخطوط “شرح غريب البخاري”، ومخطوط في الطب بعنوان ” كنوز المعرفة”، وغيرها. وهذه الزاوية ليس لها طلبة حاليا. وفي الأخير قدّم لنا القائم على الزاوية إكرامياتٍ محلية منها “خبز البصل” الشبيه بـ”لمْحَاجَبْ” المعروفة في مدينة الجزائر.

زيارة تاغيت

قمنا أيضا على هامش الملتقى بزيارة بلدة تاغيت التابعة إداريا لولاية بشار، وهي باختصار أيقونة سياحة بما تملكه من كثبان رملية ذهبية يتزحلق عليها السياح، وصخور منقوشة تعود إلى العهود الغابرة، مشابهة لنقوش جبال طاسيلي في أقصى جنوب الجزائر. لكن هذه الكنوز التاريخية العريقة في حاجة إلى حماية ولو بسياج، فقد تألمتُ كثيرا لما شاهدتُ خدوشا ألحقت أضرارا بالنقوش الصخرية التاريخية، اقترفتها أيدي بعض الزوار الحمقى.

مازالت الأمازيغية في بني عباس حيّة تُرزَق، تتجلى في التراث المادي وغير المادي. والملاحظ أن لسان تابَلْدِيتْ (أي شلحة) في حالة ضمور بسبب الزواج المختلط ولعدم تمكينها من منابر الإعلام المرئية والسمعية، ولغيابها في المدرسة. لذلك دعت توصيات الملتقى إلى تمكينها من هذه الوسائل. ورغم هذه الوضعية المقلقة، فمازال الناس يتحدثون بها هنا وهناك.

ورأيتُ هناك في تاغيلت تجارا يبيعون بعض المصنوعات التقليدية الصحراوية، وبعض الإبداعات المنجَزة بمادة الرمال الذهبية في أشكال عديدة، منها لوحات فنية، وزجاجات وكؤوس ملآى بالرمال ذات الألوان المختلفة مكتوب بداخلها اسم تاغيت بطريقة فنِّية عجيبة، من إنجاز الشاب بوسماحة ڤصار الذي شاهدته وهو يلبّي طلبات زبائنه، بإضافة أسمائهم بالكتابة الرملية على اللوحات الفنية التي اقتنوها. وفي المكان نفسه شاهدتُ بعض الأهالي يضعون جِمالهم المزيّنة ومركباتهم الميكانيكية تحت تصرف السياح، للقيام بجولات قصيرة، مقابل مبلغ ماليّ مقبول. والجدير بالذكر أن أهل قصر بِرَبِّي لا يزالون يتحدثون بالأمازيغية من مجموع ستة أو سبعة قصور يتشكل منها سكان بلدية تاغيت. هذا وقد تناولنا وجبة الغداء في إقامة سياحية رائعة، تابعة للديوان الوطني الجزائري للسياحة (ONAT).

الأمازيغية في بني عباس 

مازالت الأمازيغية في بني عباس حيّة تُرزَق، تتجلى في التراث المادي وغير المادي. والملاحظ أن لسان تابَلْدِيتْ (أي شلحة) في حالة ضمور بسبب الزواج المختلط ولعدم تمكينها من منابر الإعلام المرئية والسمعية، ولغيابها في المدرسة. لذلك دعت توصيات الملتقى إلى تمكينها من هذه الوسائل. ورغم هذه الوضعية المقلقة، فمازال الناس يتحدثون بها هنا وهناك، خاصة في إڤلي، ومازر، وتابَلْبَالَه، ولواته. وكذا في بعض قصور الولايات القريبة من بني عباس، منها بشار(بربّي في تاغيلت/ وَاكْدَا، وبني ونيف)، وبوسمغون بالبيض، والنعامة، وأدرار.

إن الأمازيغية في بني عباس لا ينحصر وجودها في اللسان فقط، فهي موجودة بكثافة في مجالات الحياة العديدة، كأسماء الأماكن (إڤلي/ كرْزَازْ/ ألوَاتَه/ اُوڤرْتَا/ تِيمُودِي)، وأسماء الأشجار والنباتات، وأسماء الحيوانات والطيور والحشرات، وأسماء القصور (إغَرْمَاوَنْ)، والموسيقى، والشعر، والرقص، واللباس، والعادات والتقاليد، وأطباق الأكل، والعمران القديم، وأساليب الزراعة والرّي.

وعندما تجاذبتُ أطراف الحديث مع بعض المواطنين في مقهى بمدينة إڤلي -خاصّة مع السيد عبد القادر عيساني- لاحظتُ أن لهجة “تابلديت” لا تختلف كثيرا عن اللسان القبائلي في الشمال، ومن المفردات المشتركة بينهما: [آلْغُمْ: جمل/ أغيول: حمار/ تاغْتْ: معزة/ أفونَاسْ: ثور/ تافُونَاسْتْ: بقرة/ اُوشَنْ: ذئب/ إسَلْمَانْ: أسماك/ تِيزِيرِي: قمر/ تافُويْتْ: شمس/ تامْدّيتْ: المساء/ إيظْ: ليل/ آضُو: ريح/ تْوِيزا: التعاضد والتعاون/ أرْڤازْ: رجل/ تامْطُوتْ: إمرأة/ آوْسّارْ: كبير السن/ إرْذنْ: قمح/ إبَاوَنْ: فول/ تِيشَرْتْ: ثوم/ أسُو: اليوم/ أهْتشَا: غدا/ تازْدَيْتْ: نخلة/ أمانْ: ماء/ آغْرَمْ: مسكن/ تِمْسِي: نار/ تامُورْتْ: أرض وموطن/ أقبّاشْ: الفأس/ أزْطّا: غزل ونسج. وغيرها]…

أما لسان بلدية تابَلْبَالَه الواقعة جنوب ولاية بني عباس فهو متميّز، بكونه يجمع بين مفردات أمازيغية (شلحه)، وعربية، وإفريقية. علما أن مفردات اللغة الإفريقية هي الغالبة كما بدا لي من خلال محاورة بعض مواطني ومواطنات بلدية تابَلْبَالَه المشاركين في معرض الملتقى بمدينة إڤلِي، وهذه نماذج منها: [زَادْغُو: اليوم/ بِيبْيَا:غدا/- كِيكَا:الليل- هَامُو:اللحم/  يُويُو:الجمل/ هَاوِي:البقرة/ إزَضْ: ديك/ تِينِي: تمور/- هِينِي:القمح/ تَمْزَنْ:الشعير/ آغَمْ: الخبز/ وِي: إمرأة/  آرُو: رجل/ كَنْڤو: نخلة/ إزْوِي: طفلة/ إزِي: طفل/ إزَمّي: الأسد/ أسْغَدْ: فحم وجمر/ إسْرِي:عريس/ إزُومَا: كبش/ إذرَامَنْ:مال/ إذَذْ: قِربة/ إسَڤنُو: سحاب.].

ومن الجهود المبذولة للحفاظ على اللسان البلبالي وإنقاذه من الضمور، إنجاز “قاموس بلبالي عربي أنجليزي” ألفه د. الأمين سواق سنة 2010م، وقد تصفّحتُ بعض صفحاته في معرض الملتقى، وهو مرقونٌ بلغات ثلاث (الأمازيغية/ العربية / الانجليزية). كما قامت المحافظة السامية للأمازيغية بمعيّة الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، بإنجاز قرص مضغوط لباقةٍ من أغاني تابَلْبَالَه، أدّتها فرقة موسيقية تحت قيادة مصطفى مخلوفي.

والملاحظ أن الثقافة الأمازيغية في بني عباس منسجمة مع الثقافة العربية الإسلامية، تعيشان في وئام وتناغم منذ الأزمنة الغابرة. وقد أبرز رئيس بلدية لواته هذا التلاحم بين المكوّنين الثقافيين الأمازيغي والعربي، في كلمته الترحيبية التي خصّ بها  المشاركين في الملتقى عند حلولهم ضيوفا على بلديته.

العودة إلى الجزائر عبر مطار بشار

صادفنا في شمال الولاية (بين إڤلي وولاية بشار) أثناء توجّهنا إلى مطار بشار للعودة إلى العاصمة الجزائرية، بعض قطعان الماعز والأغنام مع رعاتها. ولاحظنا أن الغطاء النباتي (أشجار/ شجيرات/ أعشاب) تزداد كثافة كلما اتجهنا نحو الشمال. وشاهدنا أيضا في هذه المنطقة بعض البحيرات عامرة نسبيا بالمياه. أما التضاريس فهي تزداد تنوّعا في شمال الولاية (سهول جرداء/ جبال بركانية/ هضاب صخرية/ كثبان رملية ذهبية ساحرة). ومشاريع الاستثمار في هذه الناحية بادية للعيان في شكل استصلاح الأراضي، وكانت وتيرته تزداد كثافة كلما اقتربنا من بشار. وتجدر الإشارة إلى أنّنا حظينا في القاعة الشرفية لمطار بشار، باستقبال يليق بمقام المشاركين في هذا الملتقى العلمي الخاص بالأمازيغية.

 الخاتمة

إن ولاية بني عباس الفتية مُقبلة على مستقبل واعد، بما تملك من إمكانات سياحية كبيرة بنوعيها؛ المادية وغير المادية، تتجلى في نقوش صخرية، وقبور وقصور قديمة، وحيوانات بحرية متحجِّرة، ومخطوطات متنوِّعة، وجمال الطبيعة (تضاريس متنوعة)، وبساتين غنَّاء، وثقافة متنوعة، وفلكلور غنيّ، وأطباق غذائية محلية تسيل اللعاب، ورمال ذهبية (العرق الغربي الكبير) تمتّع السُّيّاح بمناظر خلابة لشروق الشمس وغروبها، وتوفّر لهم فرصة التزحلق على الرمال الذهبية. ولها بناياتٌ تجمع بين العمارة المحلية الأمازيغية القديمة (إغَرْمَاوَنْ)، والعمارة الإسلامية (مساجد وأضرحة)، والعمارة الفرنسية لعل أهمّها مقر دائرة بني عباس.

لا شك أن هذه الإمكانات السياحية ستجعل ولاية بني عباس في المستقبل القريب قطبا سياحيا رائدا، يُدِرّ أموالا طائلة لخزينة الدولة، قد لا تقلّ في حجمها عن عائدات المحروقات الآيلة إلى النضوب، وستكون بديلا عنها على المدى البعيد. لكن صناعة السياحة في حاجة إلى ‘عادة فتح متحف بني عباس بعد ترميمه، وفي حاجة أيضا إلى منشآت قاعدية كالمطار، ومحطات طاكسي، والبنوك، وشقّ طريق جديد نحو بلدية تبلبالة، لتيسير تنقّل وتجوّل السياح والزوار القادمين من ربوع الوطن ومن خارجه. هذا وقد أخبرني السيد قندوسي تهامي رئيس المجلس الولائي، والسيد عبد الكريم موساوي مدير السياحة، أن هناك في الأفق مشاريع تنموية سياحية كبيرة تليق بمقام ولاية بني عباس، ومشاريع تنموية فلاحية قدِمَ أصحابها من الشمال، سترى النور عن قريب إن شاء الله.

وفي الأخير أجدّد كلمة الشكر والعرفان للسيد سي الهاشمي عصّاد الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية الذي شرفني بالدعوة لحضور الملتقى كضيف شرف. والسيد ساعد شنوف والي ولاية بني عباس، والسيد قندوسي تهامي رئيس المجلس الولائي اللذين لم يدّخرا أي جهد من أجل توفير شروط النجاح للملتقى، كما أشكر مواطني البلديات التي حللنا بها، وكذا شيوخ الزوايا الذين أحسنوا وفادتنا بأسمى آيات الجود والكرم، والسادة الذين ساعدوني في إنجاز هذا المقال الانطباعي. والسيد مدير وعمال فندق الريم الذي أقمنا فيه طيلة أيام الملتقى، والسيد مدير السياحة عبد الكريم موساوي، ورجال الأمن الذين سهروا على راحتنا وأمننا طيلة أيّام الملتقى، دون أن أنسى سائق الحافلة الموضوعة في خدمتنا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!