-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

باحثون جامعيون ولكن في الفضاء الأزرق فقط؟!

باحثون جامعيون ولكن في الفضاء الأزرق فقط؟!

لن أُحَمِّلَ، ولن أحمِل على الأسرة الجامعية في مقالي الإصلاحي هذا، الذي يحمل عنوانا يوحي بالتحامل أو النقد أو بالتحضيض.. وذلك لسبب وجيه هو أنني أنطلق من خصوصيات ومميزات واقعي ومرجعي ومحدداتي المتعارف عليها، وهو الذي تقرره أدبيات ومسلمات الحياة الجزائرية سلطة حاكمة وشعبا تائها ذليلا محكوما، ومفاده: أن لا قيمة لفضيلة العلم ولا مكانة لقيمة المتعلم في بلادنا أصلا.. وأن بلوغ المناصب العليا والدرجات الرفيعة -حتى الاستشارية منها، أو الانتخابية الصورية أو نحوها..- في سلم الحياة الرسمية والشعبية لا يخضع لمنطق العلم ومكانة صاحبه وأخلاقه وقيمه وسمعته وطهارته ومدى خدمته لأمته وشعبه ووطنه.. بل إن تحصيل المكانة الرسمية أو الشعبية يخضع لاعتبارات أخرى بات الجميع يعرفها ويعمل بها ويدرج عليها دون أن يُضيع وقته مثل كثير من الشرفاء المحترمين.. فقد يصير أي أستاذ جامعي خاملُالذكر علميا وجاهلٌ بمعارف تخصصه، خلو من البحث والمعرفة، وعطل من العلم ومقتضياته، وفراغ من الرصيد والإنتاج العلمي،رئيس جامعة كبيرة، أو مديرا عاما لأكبر شركة أو مركز أو هيئة أو مؤسسة حساسة في البلاد.. دون تلك التكاليف والمحطات.. كما نرى ونسمع منذ ستين سنة خلت.. ويتحول بورقة تنزل من الوزارة الوصية لتجعل منه الشيء الفلاني، ويغدو إلى مجرد راعٍ لا يراعي سوى تسيير الأمور بأي شكل من الأشكال ولو على حساب العلم ومستوى البحث العلمي والجدوى الاقتصادية والنفعية لتلك المؤسسة التي يرأسها.. ويصير همه منحصرا فقط في إرضاء الطلبة الكسالى والفارغين والهمل من أراذل المنظمات الطلابية الذين يخلدون في الجامعة رسوبا ومشاغبة وابتزازا.. كما يصير همه الخضوع واسترضاء الهمل من الأساتذة أمثاله ممن يتولون كِبْرِ فتن النقابات العمالية.. ومع هذا الصنف المتهالك الذي توليه السلطة علينا وبالرغم منا ونحن له ولها كارهون.. يضيع العلم، وتسقط مكانة العالم والباحث والأستاذ الجامعي الجاد.. وكأنما تعلن السلطة بلسان حالها أن هذا هو الواقع الذي أريده للجامعة وللأستاذ الجامعي، شئتم أم أبيتم؟؟ وهكذا الأمر في سائر مؤسسات البلاد..

ومع هذه الوضعية الأليمة التي فرضها منطق السلطة الأزعر.. يتحلل الأستاذ الجامعي من مسؤولياته ووظائفه ويتحول إلى مجرد موظف ميت يؤدي مهام روتينية لا قيمة لها بين الأمم، فيصير يُدرِّسُ وأي تدريس؟؟ ويُشرف وأي إشراف؟؟ ويناقش وأي مناقشة؟؟ ويُنشأ مخبرا بحثيا لا يكتب فيه حرفا واحدا؟؟ ويدعي كذبا على الوزارة بتسجيل وحدة بحث دون إنتاج أي حرف؟؟ ويتدخل في الملتقيات وأي تدخل؟؟ ويجري الامتحانات السهلة والميسورة ويملأ منصة (بروقرس) و (مودل) بالفراغ والوهم والخداع.. والمهم عنده الحفاظ على استمرار وصول الأجرة الشهرية ومنحة المردودية وبعض المنح الأخرى التي تقدمها الجامعة والخدمات الاجتماعية.. والوزارة تعلم بهذا الوضع الكارثي علم اليقين.. والأسرة الجامعية لا تعلم فقط، بل تساهم في هذه الجريمة الأخلاقية والروحية والحضارية والمدنية.. لاستسلامها مرغمة عن التنازل عن مسؤولياتها المنوطة بها حضاريا وروحيا واجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا..

وقد ساهم هذا الوضع الجامعي الآسن، والجو البحثي الخانق، والوسط العلمي المأفون في تحويل الأساتذة إلى مجرد أرقام تزداد وتنقص في حسابات السلطة التي لا تريد جامعة حقيقية ورائدة وفعالة ومنتجة للعلماء والمعارف والعلوم، وقائدة حقيقية للمجتمع، وموجهة قوية وواعية للسلطة السياسية والإدارية والتنفيذية والتشريعية التي يغلب عليها ضعف المستوى العلمي والبحثي والمعرفي، وتتسم قراراتها بالسطحية والغثائية واتساع الثغرات التقنينية.. وإلاّ كيف نفسر المراجعات الدائمة والدورية للقوانين التي مازال لم يجف حبرها؟؟

ومن هنا استغنى الأستاذ الجامعي المسكين عن دوره الحقيقي، واكتفى بالدور الذي حددته له السلطة، وحدده له مدير الجامعة المجهول في حقول المعرفة والبحث العلمي والدعوي والاجتماعي والأخلاقي.. ولم تعد تهمه عملية البحث والإنجاز وإنتاج المعارف بكافة أشكالها المنوطة به وبوظيفته الحضارية.. لأنه يرى الأنموذج أمامه يصرخ بجؤار بشع ومزعج، قائلا له بلسان حاله: ((انظر إلي فقد صرت رئيس جامعة كبيرة أو مديرا عاما أو عضوا في مجلس الأمة أو.. من غير علم ولا بحث علمي ولا صفحة مملوءة بعناوين الكتب والأبحاث والمقالات يترصع بها موقعي في شبكات ومنصات البحث العلمي؟؟))، فلا تعجب إذن واستكن واخنع للسلطة وستصير يوما شيئا ما لأنك الخميرة التي يبحثون عنها.. وأما الأستاذ المنتج والموّارُ الفعال الكاتب الباحث الداعية.. فهذا هو المشاغب المرفوض والمطارد حتى بعد تقاعده..وعليه، فهذا العامل وغيره ساهما في تحول قسم كبير من غالبية أساتذة الجامعة إلى كائنات أخرى تؤدي وظيفتها الاعتيادية برتابة وخنوع ورضى.. لأنه لا أحد يحاسبه إن أنتج أو لم ينتج؟ لأن البحث العلمي ليس من هم ولا اهتمام الوزارة والإدارة، بل همهما الوحيد هو تسيير الشأن العام كيفما كان، ولو عبر منصة (مودل) القادرة على تفريخ وتفقيص ملايين الرخويات الحلزونية بغير علم.. ولا أحد يحاسبه إن أنتج أو لم ينتج؟ أو تدخل أو لم يتدخل؟ أو حاضر أم لم يحاضر؟ أم كتب وألف أم لم يكتب أو يؤلف؟
ومن هنا فقد مات الأستاذ ومعه مات البحث العلمي، وركن الجميع لسكينة الكسل وطمأنينة الراحة، وصار يصدق عليه قول المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
وقد خلق هذا الجو المتعفن نوعية ونمطا غريبا من الأساتذة والبحث العلمي المشوه والبديل بزعمهم، إذ لجأ هذا الصنف الخالي من الإنتاج العلمي والرصيد البحثي لإظهار العبقرية البحثية والعبثية واللامسؤولة والغريبة من البحث العلمي في وعلى صفحات الفضاء الأزرق فقط.. إذْ وفر لهم الفضاء الأزرق بصحبة تلاميذهم البُلهِ والفاشلين ساحة مشتركة لا تعترف بالقيم ولا بالمقامات ولا بالرتب ولا بالمكانات ولا حتى بالأحوال والأوصاف والرموز والنعوت.. حيث يقف التلميذ الكسول وقليل الحياء والصفيق الوجه واليد واللسان ليرد على أستاذه ويصحح بالخطإ الصواب.. ويخطأ بالخطإ الصواب.. وللأسف الشديد فقد رضي هذا الصنف الهملُ من مساكين وبؤساء الأساتذة بهذه القسمة الضيزى، ورضوا بأن يختلطوا مع تلاميذهم ليضيعوا الوقت ويهدروا القيم التعليمية النبيلة الفاضلة، ويحيلوا الرموز التربوية العظيمة إلى نفايات وفضلات هجينة تُرمى في مزابل الاختلاط الفايسبوكي الأثيم..

وقد تسنى لي الاطلاع على صفحات الفضاء الأزرق الذي تختلط فيه هذه النوعية الرديئة من الأساتذة والطلبة، فوجدت العجب العجاب.. وكيف يُصحح طالب هش لأستاذه آية بالخطإ فيكتب له مصححا إن عبارة (بعضهم بعضا) لا تكتب هكذا يا أستاذ، بل تكتب هكذا (بعظهم بعظا).. ولو رأيتم وسمعتم وقرأتم حال الأساتذة العباقرة الذين لا يُعرف لهم مَعْلَمٌ أو ذكر في حقل معرفته التخصصية وهم يتقيأون أمشاج الكلام الذي ضاقت به حناجر ومجاري حثالات الملحدين والعلمانيين والحداثيين من اليهود والنصارى والمستغربين.. ويعدون ذلك من الفتح العلمي المبين.. فيزداد الطلبة حيرة فوق حيرتهم، وغموضا فوق ما هم عليه من هزال وضعف.. بل ذهب بعضهم لاعتبار تقيوآته تلك فتحا فلسفيا ومعرفيا جديدا في حقول المعرفة الإنسانية، ومنظورا جديدا من مناظير البحوث المنهجية الرائدة.. وهو لم يكتب كتابا متميزا خاصا به في حياته العلمية التي فاقت العقدين من الزمن.. والنماذج من هذا الساقط الوضيع كثيرة جدا.. اكتفينا بواحد منها كراهة من استنشاق النتن الفايسبوكي القذر..

والغريب في الأمر أن الوباء تفاعل وتفاقم وولد غيره من الأوبئة السرطانية المعدية الأخرى، فقد روى لي زميل يُدَّرِسُ في جامعة جزائرية رواية علمية مقززة ومستفزة جدا عن هذا النمط التعلمي الفايسبوكي الجديد الذي استحالت معه الحصص التطبيقية إلى عبث بالأجهزة والهواتف النقالة، وغوص قذر وإبحار أثيم في الفضاءات الفايسبوكية، وصارت الحصة التطبيقية تمضي ويُمضي زمنها أمثال هذا الأستاذ العبقري بالبحث عن أحسن منشور في رأي الطلبة، وكتابة أحسن تعليق في تلك التفاهات الفايسبوكية، وصياغة منشور مشابه له.. وهكذا.. ولما سألوه لماذا تُضيع مفردات البرنامج في هذا العبث؟ أجاب المغرور الأحمق قائلا: ((أنا بروفيسور ومن حقي تطوير المادة العلمية..))، وهكذا يوكل الأمر لأمثال هذا المعتوه كي يتقاضى أجر أستاذ جامعي بتقصير وتضييع زمن التعلم المقدس في التفاهات..

أما عن هجرة المكتبة واستعارة الكتب واقتناؤها وكتابة الأبحاث والمقالات والدراسات وتأليف الكتب فقد صار حديث الغريب مع اللئام والأنذال على مائدتهم، إذْ يصير صاحبه موضع تندر وتعجب وحيرةٍ.. وفي ظل هذه الوضعية غير الطبيعية انقسم فئام المعلمين والمدرسين إلى طرائق قددا.. ففئام منهم انحازوا لفتن ووباء الاتحادات والنقابات الفتانة الآثمة. وفئام لا هم له سوى حصاد ومراقبة حركة غيره وتبشير مسؤوله الأعلى بها حية دافئة بُعيد وقوعها بقليل كي يتغذيا ويشبعا الاثنان من تعويق الناجحين والصالحين.. وفئام لا هم له سوى التدريس بما رَثَّ ووهنَ وقدم وبلي من المعارف التي مضى على وضعها السنون العجاف..

والأصناف الرديئة غيرها كثير، ولذا أرجو منكم أيها البقية الصالحة أن تتدثروا وتتسلحوا بالآتي:
1 – اِنْأَوا بمقام العلم والمعلم المحترم والاختلاط بكل من هب ودب في الفضاء الأزرق الذي لا يضمن ولا يكفل مستوى الاحترام المطلوب لمكانة المعلم.
2 – اختبروا نوايا السلطة تجاهكم وذلك بإحراجها بالعودة لممارسة مهامكم ووظائفكم الرسالية والحقيقية.

3 – أحرجوها بالكتابة والبحث في أمهات قضايا الأمة والمجتمع والمستقبل المشرق.
وفي ختام هذا المقال أطلب من الإدارة الوصية أن تُلزم الأساتذة كتابة خمس مقالات ودراسة وبحث وحضور ملتقى كل عام، وتأليف كتاب كل ثلاث سنوات، وإلاّ فضعوا القوانين الرادعة التي تحرمه من حق التمتع بالمنح والمكافآت والعلاوات، وساعتها سيتفرغ المسكين مرغما ومدفوعا للبحث والقراءة والمطالعة والتفكير والكتابة..

ولكن بالله ربكم من أخاطب أنا هنا؟: الإدارة الصالحة والمحترمة جدا؟؟ أم الأستاذ الباحث المحترم؟؟ المهم عندي: أللهم اشهد أني بلغت..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!