-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بالمال يخدمون اللغة الفرنسية!

بالمال يخدمون اللغة الفرنسية!

كان ملك فرنسا فرانسوا الأول (1494-1547)، الملقب بـ”ملك النهضة”، قد وقّع مرسوما في قصره عام 1539، يقضي باستعمال اللغة الفرنسية بدل اللغة اللاتينية في جميع نصوص القرارات الإدارية والقضائية. ويبعد هذا القصر نحو 100 كلم عن باريس.

وظلت هذه التحفة المعمارية قائمة إلى اليوم، لكن ترميمها تطلَّب 200 مليون أورو وسنوات من التشييد جعل تدشينها يتأجّل مدة طويلة. وقد تم ذلك في 30 أكتوبر 2023 على يد الرئيس ماكرون، وأطلق على هذا القصر المترامي الأطراف اسم “المدينة الدولية للّغة الفرنسية”.

صراع… والهدف واحد
ألقى الرئيس الفرنسي بهذه المناسبة خطابا تاريخيا دام قرابة ساعة جاء فيه: “في الوقت الذي تعود فيه الانقسامات، وتعود فيه الكراهية إلى الظهور، وفي زمن تبرز فيه نيّات زرع الفتن بين الجاليات والأديان والأصول، فإن اللغة الفرنسية تُعدّ بمثابة اللحمة التي تجمعنا معًا في وحدتنا [الوطنية] وتنوّعنا”.
ومع ذلك لم يرض عنه رجال الأكاديمية الفرنسية والمدافعون عنها لسبب يلخّصه أحد هؤلاء العلماء بسخرية: “إذا كان هناك مجالٌ بعيد عن أن يتألق فيه [ماكرون]، فهو مجال الدفاع عن اللغة الفرنسية. عليك أن تغوص في أعماق تاريخ فرنسا لتجد زعيما سياسيا ألحق بها كل هذا الضرر… إنها مبادرة [تدشين مدينة اللغة الفرنسية] عظيمة… لوضع اللغة الفرنسية في متحف حتى لا ننزعج جرّاء تدميرها البطيء الذي شاركنا فيه بأيدينا”.

 في هذه الأثناء، تصطدم قبل أيام قليلة الجامعات الثلاث في مقاطعة كيبيك التي تدرّس باللغة الإنكليزية (من بين نحو 20 مؤسسة جامعية في المقاطعة) بقرار حكومة كيبيك يقضي بمضاعفة الرسوم الدراسية للطلبة الذين يأتون من المقاطعات الكندية الأخرى ويتابعون دراستهم باللغة الإنكليزية! وذلك للضغط على هؤلاء الطلبة ليواصلوا مشوارهم الدراسي باللغة الفرنسية. وهكذا انتقلت هذه الرسوم من مبلغ يقلّ عن 9 آلاف دولار إلى 17 ألف دولار سنويا!

ويندد مدافع آخر بسياسة بلاده تجاه دعم اللغة الفرنسية مشيرا إلى أن “في الأقسام التحضيرية العلمية اليوم [في فرنسا]، نقوم بإجراء اختبار أسبوعي للطلبة باللغة الإنكليزية واختبار واحد باللغة الفرنسية في كل فصل دراسي. الجميع منغمس في استعمال الإنكليزية، لكنهم أصبحوا لا يدركون ذلك”. وهنا يذكّر هؤلاء المدافعون بأن في عام 2019، نبهت الأكاديمية الرئيس ماكرون إلى حقيقة أن قانون “توبون” (الذي يدعو إلى حماية اللغة الفرنسية في عقر دارها) لا يزال غير مطبَّق إلى حد كبير.
وقد تم حفل التدشين بحضور الأمين العام للمنظمة الدولية للفرانكفونية. وجرى ذلك في غياب ممثلين عن القارة الإفريقية التي تؤكد فرنسا بأنها القارة التي ستكون مركز الفرانكفونية مستقبلا لتزايد عدد سكانها بشكل كبير. أما ممثل مقاطعة كيبيك الكندية فحضر، علما أن هذا الإقليم ساهم بمليوني (2) دولار في ترميم “المدينة الدولية للغة الفرنسية” التي لا تزال تطلب الدعم وتنشر قائمة داعميها (وعلى رأسها كيبيك) في موقعها الإلكتروني، وتوضّح في نص طويل موجه لزائريها سعر تذاكر الدخول… حتى أنك تشعر بالملل وأنت تقرأ تفاصيله وكأن الأمر يتعلق بجمع تبرعات للمساكين!

وزيرُ اللغة الفرنسية
تتشكل حكومة كيبيك من 23 وزارة، منها وزارة اللغة الفرنسية مَهمّتُها “تعزيز اللغة الفرنسية باعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة واللغة المشتركة في كيبيك”. لم يحضر وزير اللغة الفرنسية الكيبيكي لحفل التدشين لأنه كان قد قدِم إلى باريس قبل ذلك وتأجّل موعد الحفل وطال به الانتظار فعاد إلى بلاده وأوفد من يمثله. أما سفير كندا في فرنسا فقال إن “المدينة الدولية للغة الفرنسية” تمثل “نافذة للفرانكفونية كنا بحاجة إليها… هذا الصرح ليس متحفًا، وينبغي أن لا نراه بهذا الشَّكل”. وعندما سُئل عما إذا كانت فرنسا تفعل ما يكفي للدفاع عن اللغة الفرنسية؟ أجاب أن لا أحد يفعل ما يكفي في هذا المجال، ونحن جميعا مقصِّرون.
وفي هذه الأثناء، تصطدم قبل أيام قليلة الجامعات الثلاث في مقاطعة كيبيك التي تدرّس باللغة الإنكليزية (من بين نحو 20 مؤسسة جامعية في المقاطعة) بقرار حكومة كيبيك يقضي بمضاعفة الرسوم الدراسية للطلبة الذين يأتون من المقاطعات الكندية الأخرى ويتابعون دراستهم باللغة الإنكليزية! وذلك للضغط على هؤلاء الطلبة ليواصلوا مشوارهم الدراسي باللغة الفرنسية. وهكذا انتقلت هذه الرسوم من مبلغ يقلّ عن 9 آلاف دولار إلى 17 ألف دولار سنويا!
ومن الأسباب التي برّرت بها الحكومة قرارها أن الطلبة الوافدين من المقاطعات الكندية الأخرى وكذا القادمين من الخارج يفضِّلون الدراسة في هذه الجامعات الأنكلوفونية (بدل الفرانكفونية)، ثم عند الانتهاء من دراستهم يغادرون كيبيك، وبالتالي لا تستفيد منهم هذه المقاطعة. وما يزيد الطين بلة أن النسبة الكبيرة من الدعم الحكومي الموجَّه للجامعات بالمقاطعة تذهب إلى هذه الجامعات الأنكلوفونية بسبب ظاهرة اختيار عدد متزايد من الطلبة الدراسة في تلك الجامعات بدل الدراسة في الجامعات الفرانكفونية. وقد استنكر هذه الخطة لحكومة كيبيك رؤساء الجامعات الأنكلوفونية الثلاث وكذلك عدد من السياسيين، وقادة لمعارضة في كيبيك، وكذا أعضاء الحكومة الفيدرالية ورجال الأعمال.
وبغضب شديد، أشار رئيس الجامعة الأنكلوفونية العريقة “ماكجيل” بمدينة مونتريال إلى أن القرار يمثل ضربة قاسية لقطاع التعليم والأعمال عالية التقنية في المدينة، وسيكون له “عواقب وخيمة على قطاع التعليم العالي وعلى سكان كيبيك بأكملها”.
ومن مبرّرات القرار التي أتت بها الحكومة أن الرسوم الدراسية الحالية لا تغطي التكلفة الإجمالية للتعليم العالي، فكيف تموّل الحكومة تعليم عشرات الآلاف من الطلبة الذين ينتهي بهم الأمر إلى مغادرة المقاطعة بعد التخرج؟ وتؤكد وزيرة التعليم العالي أن الطلبة الأنكلوفونيين الكنديين الذين يتوافدون على الجامعات الأنكلوفونية الثلاث بالمقاطعة يحصلون على دعم يصل إلى 110 ملايين دولار سنويًا. مشيرة إلى إنه بين عامي 2019 و2020، تلقّت الجامعات الثلاث المذكورة دعما حكوميا للطلبة يقارب 70% من ميزانية إجمالية تبلغ 407 ملايين دولار. وقد قسم الباقي بين الجامعات الفرانكفونية الـ16 في المقاطعة!
وفي السياق ذاته، تصرِّح الحكومة في كيبيك أن السبب الآخر في اتخاذ هذا الإجراء هو العمل على عدم تحفيز طلبة المقاطعات الأخرى على القدوم إلى كيبيك لأن الحكومة تعتبرهم تهديدًا لـ”الوجه الفرنسي” لمونتريال، وأن من شأن هذا القرار “زيادة تمويل الجامعات الفرانكفونية وحماية اللغة الفرنسية”. أما وزيرُ اللغة الفرنسية فكان صريحا في قوله: “إن عشرات الآلاف من الطلبة الأنكلوفونيين الذين يأتون إلى مونتريال لهم تأثير إنكليزي على المدينة”! أما المناوئون لهذا القرار فيؤكدون “أن أصحاب القرار يحاولون إثارة معركة أخرى مع الجالية الأنكلوفونية في المجتمع، وهو أمر محبط للغاية”.
ويتواصل الجدل حول هذا القرار إذ تنظر فئة أخرى آثاره السلبية من زاوية مختلفة؛ إذ تعدّه مضرا على المدى الطويل بقدرات كيبيك، اقتصاديًا واجتماعيًا، وفي موضوع إقامة علاقات مثمرة طويلة الأمد مع شركائها في كندا. فضلا عن الأضرار التي ستلحق بالسمعة الدولية لمقاطعة كيبيك”. أما الأكاديميون فيقولون في احتجاجهم على القرار: “يحتاج البحث إلى أشخاص من العديد من البلدان للعمل معًا سواء أحببنا ذلك أم كرهنا، ويتم إجراء الأبحاث في الغالب باللغة الإنكليزية على هذا الكوكب”.
ومع كل ذلك فحكومة المقاطعة ماضية في تنفيذ قرارها مصمِّمة على إيقاف “تراجع اللغة الفرنسية في كيبيك”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!