-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بوتين.. شجاعةٌ غير متهوّرة

خير الدين هني
  • 2610
  • 0
بوتين.. شجاعةٌ غير متهوّرة

الكاريزما والشجاعة غير المتهوّرة، والموهبة وقوة التأثير في المحيط السياسي، أو العسكري الذي يتحرك فيه القائد أو الزعيم، والاستفادة من الخطط التي يضعها عظماء القادة السياسيين والعسكريين، هي من يصنع تاريخ القادة والزعماء ويجعلهم خليقين بقيادة بلدانهم، والموهوبون منهم هم من يصنعون تاريخ شعوبهم ويقودونهم نحو منصّات التتويج بالمجد والشرف.

وقد حفل التاريخ البشري بملوك وخلفاء ورؤساء عظماء كانوا جديرين بقيادة شعوبهم، ومنهم القائد العبقري هنبعل الذي نقل الحرب إلى قلب روما، وقد غامر حين عبر جبال الألب الوعرة بجيشه وفيلته وعتاده، وأفنى في معركة (كناي) الشهيرة خمسين ألفا من الرومان في يوم واحد (30 ألف مقابل 200 ألف روماني)، وخطة هنبعل في معركة  كناي التي طوَّق بها الجيش الروماني، مازالت تُدرَّس في الكليات الحربية المعاصرة، وهي التي طبَّقها الجنرال شوارزكوف في غزوه العراق، حين طوَّق القوات العسكرية العراقية، وشلّ حركتها ودمّر كل ما كانت تملكه  من عتاد وآليات قتال.

ونفذها من قبل جنرالٌ روماني شاب عُرف بمواهبه القتالية، يُدعى (سكيبو الإفريقي)، كان في العشرينيات من عمره، حين نقل الحرب من روما إلى قرطاج وحرّقها على رؤوس ساكنيها، يعتبره بعض المؤرّخين أعظم جنرالات روما على الإطلاق، إذ تتلمذ على يد هنبعل وأخذ تكتيكاته في نقل الحرب إلى ديار العدو، وهذا الشاب القائد هو الذي مهَّد لروما السيطرة على شمال إفريقيا، والحكماء يقولون: القويُّ لا تُؤخذ منه لقمة عيشه.

ولا ريب أن تاريخ هنبعل وسكيبو وغيرهما من عظماء التاريخ، ممن اطّلع على تاريخهم الحافل بالبطولات والأمجاد، الرئيسُ بوتين وعمل بتكتيكاتهم في الحروب والمنازعات الدولية، فللرجل كاريزما قوية رغم أنه ابن طبّاخ الكرملين، وقد ظهرت مواهبه في قيادته الفذة لروسيا، إذ استعاد مجدها بعدما عبث بها خاملُ الذكر غورباتشوف ومن بعده يلتسين، وزاده قوة في التأثير والتصميم إلى جانب موهبته القيادية، عمله في الـ”كا جي بي” مدة طويلة، والعمل الاستخباراتي الحقيقي يشحذ همم الموهوبين ويقوِّي عزائمهم، ويمنحهم قوة الإرادة وصدق العزيمة والصرامة في التسيير، حين تُسند إليهم المسئوليات، ويجعلهم مهيبي الجانب مقدامين غير ضعفاء ولا هيَّابين، ولا خاملين متقاعسين أو متردِّدين.

وموهبته في تسيير الدولة جعلته يُعِدّ العدة الكاملة، لمواجه الغرب الذي يعشق حياكة المؤامرات والاستبداد والهيمنة والتسلط والاستعلاء في الأرض، فمنذ أن استلم الحكم وهو يخطط لاستعادة أمجاد روسيا القيصرية والسوفييتية، وقد تأثر بقوله تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ”، رغم أنه ملحدٌ ولكنه مطلع –كفاية- على التراث الإسلامي، وقد وعظ العربَ حين استشهد بحديثٍ أو آية حينما زار دولة عربية، ليُظهر لهم أنه مطّلعٌ على محتوى تراثهم الديني والثقافي، والغرضُ من ذلك الاطلاع هو الوقوف على سر قوة المسلمين ومصدر إلهامهم وبخاصة الجماعات المسلحة منهم، حينما يصطدم بهم في المنازعات.

وخطة بوتين كانت إستراتيجية ومحسوبة بدقة فائقة، حين استشار كبار المسئولين وحين نقل الحرب إلى جارته كما فعل هنبعل وسكيبو من قبل، والولايات المتحدة في تاريخنا الحاضر، لأنه رأى من التجربة التاريخية أنَّ نقل الحرب إلى بلاد العدو هو مفتاح النصر، فيتغدى الخصم  بعدوه قبل أن يتعشى به، كان يعلم أن الغرب يريد، من طريق أكرانيا التي يرأسها القوميون الموالون له، محاصرة قوات روسيا وشل حركتها، بمرابطته على حدوده بالأسلحة الإستراتيجية من طريق حلف الناتو، وكان يعلم حجم العقوبات التي سيفرضها عليه خصومُه في الغرب، ولكنه لم يُعرها أيَّ اهتمام ولم يجعلها في حسبته، لأنه يعرف العقلية الغربية العنصرية الاستعلائية، وهي العقلية التي لا توازن بين مصالح دولها ومصالح غيرها من الدول في المنازعات الدولية.

روسيا دولة عظمى عسكريا، وبوسعها اكتساح أوروبا مجتمعة، أو تسوي مدنها بالأرض بالصواريخ العابرة، ورؤساء أوروبا يدركون هذه الحقيقة من تجربة غزو النازيين للسوفييت، وكان سببا في هزيمتهم، وهم  يعيشون في دول ديمقراطية ومازالت تعاني من أزمة اقتصادية بسبب آثار الجائحة، ويخشون من ثورة شعوبهم، لو أقدموا على أي مغامرة حربية مع روسيا وجرحوا كبرياءها وأوقفوا طموحها الجارف.

لأن بوتين حين قام بهذه المغامرة، كان يؤثِر مصلحة الأمن القومي لبلده على مصالحه الشخصية، على نحو ما يفعله غيرُه من بعض الزعماء الذين ابتلي بهم التاريخ السياسي لبلدانهم، ذلك أنه  كان مستيقنا من أن التحالف الغربي يريد إهانة بلاده وتقليص دورها  في السياسة الدولية، وفي الوقت ذاته يقتربون شبرا من عدوِّهم الجديد الصين الناهضة، ولتحقيق هذه الغاية مكّن التحالف الغربي سياسيين موالين له، لأن همهم الوحيد هو السعي حثيثا للانضمام إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، كي يضمن حماية مشاريع النخبة القومية من النفوذ الروسي، رغم رفض فرنسا وألمانيا انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد والاكتفاء بالانضمام إلى الحلف الأطلسي، لتصبح غايتُهم من السيطرة العسكرية على روسيا هو هدفهم الأسمى.

وروسيا دولة عظمى عسكريا، وبوسعها اكتساح أوروبا مجتمعة، أو تسوي مدنها بالأرض بالصواريخ العابرة، ورؤساء أوروبا يدركون هذه الحقيقة من تجربة غزو النازيين للسوفييت، وكان سببا في هزيمتهم، وهم  يعيشون في دول ديمقراطية ومازالت تعاني من أزمة اقتصادية بسبب آثار الجائحة، ويخشون من ثورة شعوبهم، لو أقدموا على أي مغامرة حربية مع روسيا وجرحوا كبرياءها وأوقفوا طموحها الجارف.

والولايات المتحدة سئمت من الحروب في البوسنة والهرسك والصومال والعراق وأفغانستان وسورية، وخسرت الكثير من الأرواح والأموال، ولم تعد قادرة على الدخول في مغامرات جديدة مع دولة تملك عوامل القوة والدمار، وهي حليفة لجارة قوية تملك وسائل القوة والغلبة من المال والعتاد والشعب المقدام الذي لا تخيفه الحروب، وبوتين يعرف هذا جيدا، ولذلك لم ترعبه تهديدات التحالف حين وعدوا الرئيس الأوكراني زيلنسكي بالوقوف معه في الحرب، ولكنهم ما لبثوا أن تخلّوا عنه، وهذا ما صرح به الريس الأوكراني في خطابه، حين قال “اتصلت بـ27 دولة أوربية وطلبت منهم العون العسكري فلم يستجيبوا”، وعلم أنهم تخلوا عنه وتركوه وحيدا يواجه مصيره، واكتفوا بتقديم خردة من العتاد لا تغني عنه شيئا.

وفي حرب الدعاية التي يستعملها بعض الخصوم ضد بعضهم الآخر، اتهم بوتين القيادة الأوكرانية بأنها عميلة للغرب، ولا تستحق أن تحكم الشعب الأوكراني الذي تجمعه مع الشعب الروسي صلة قرابة، لأنهم ينحدرون من أسلاف سلافيين مشتركين، ودعا الجيشَ إلى الانقلاب عليهم لتحرير البلاد من خيانتهم، والمعروف في الحروب والمنازعات الدولية ما تلعبه الدعاية المضللة، والدعاية المضادة في الحروب الإعلامية والكلامية، ومن يملك القدرة الحِجاجية في الخطابة والإقناع، وله أرمادة قوية من الإعلام ذائع الانتشار، هو من يكسب المعركة، إضافة إلى العمل الاستخباراتي الذي يجمع المعلومات والبيانات، لاستعمالها في المعارك والدعاية الإعلامية.

ولم يتوان الغرب في حروبه الدعائية لتأليب الرأي العام الدولي، عن توجيه الاتهام إلى بوتين بأنه دمويٌّ ومتعطش لسفك الدماء، وحب التوسع والسيطرة على دول الجوار، وهو لذلك سيدفع ثمنا باهظا، ولكنهم أخطأوا في التقدير وكأنهم يتحدَّثون عن دولة ضعيفة استهلاكية أنهكها ذلّ الفقر والجوع والعوز، وليس عن دولة عظمى تنتج سلاح الدمار والخراب، ولو يريد بوتين المغامرة لروَّعهم وأذاقهم من عذاب قطع إمدادات الطاقة، وجعل شعوبهم تثور عليهم وتحمِّلهم المسئولية، وليس من اليسير تعويض النقص الكبير، لأن الرئيس الأمريكي اتصل بزعيم دولة عربية كبيرة في الإنتاج وطلب منه زيادة الإنتاج، كي تنخفض أسعارُ الطاقة، ولكنه لم يستجب له وقال: “لست مستعدا لتعويض تكلفة الحرب الروسية الأكرانية”، لاسيما وأن بلاده في أشدّ الحاجة إلى أموال كثيرة، لتغطية تكاليف  مشاريعه التنموية الضخمة.

ويبدو أن كبار المنتجين في أوبيك وخارجها متضامنون مع روسيا، التي تضامنت معهم  لرفع الأسعار، وإخراجهم  من محنة انخفاضها إلى مستويات حرجة.

والعقوبات القاسية التي فرضها الغرب على روسيا، لا تغير من الإستراتيجية الروسية في الحرب على أوكرانيا، لأن الأمن القومي يشكل أكبر اهتماماتها الكبرى.

وروسيا من الناحية الإستراتيجية، من حقها الدفاع عن أمنها القومي، وهل تقبل أمريكا أو أي دولة ذات سيادة ولها فضلٌ من قوة، بوجود مُعدّات عسكرية مدمرة على حدودها، وعبث الأعداء المناوئين بأمنها وهي تنظر من غير تحريك لسواكنها؟ وحتى فرنسا العجوز التي فقدت هيبتها ووقارها أبت أن تكون تركيا في ليبيا كلاعب سياسي وعسكري، وليبيا ليست منطقة نفوذ لهذا العجوز الهرم ولا قريبة من حدودها وإقليمها البحري، ولكنه الأمن القومي الطاقوي جعلها تحرك عقيرتها وهي مهيضة لا تقدر على تحريك عقيصتها، ومع أن الحرب قبيحة وشنيعة ونتائجها رذيلة، ولكنها تصبح أمرا محتوما، حين يستعلي المستكبرون، ولا يسمعون نداء العقل والحكمة الراشدة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!