الرأي

بوركت‮ ‬يا‮ ‬عام‮ ‬

ليتني كنت شاعرا فأنظم أبدع قصيد في التغني بهذا العام المسعد الذي انقضى لما أدخله على قلوبنا من سرور، وليتني كنت من أرباب البيان فأدبج أروع مقال في الإشادة بهذا العام الميمون، الذي انسلخ لما ملأ به جوانحنا من حبور، وليتني كنت رساما فأنجز أجمل لوحة تجسد سناء هذا العام الذي ولى لما أضاء به وجوهنا من نور، وليتني كنت موسيقيا فأضع أعذب لحن فأخلد به هذا العام السعيد الذي انصرم لما أشاع في نفوسنا من بهجة، ولما زرع في قلوبنا من أمل بعدما تملكنا اليأس حتى كدنا نقنط من رحمة الله، فلما لم أكن أي واحد من هؤلاء الذين تمنيت‮ ‬لو‮ ‬كنتهم‮ ‬أكتفي‮ ‬بالقول‮:‬‭ ‬‮”‬بوركت‮ ‬يا‮ ‬عام،‮ ‬وأدعو‮ ‬الله‮ – ‬عز‮ ‬وجل‮ – ‬أن‮ ‬لا‮ ‬يتركك‮ ‬فريدا‮ ‬فيعززك‮ ‬بثان‮ ‬وثالث،‮ ‬حتى‭ ‬تتطهر‮ ‬البلدان‮ ‬الإسلامية‮ ‬من‮ ‬هذه‮ ‬الأصنام‮ ‬البشرية،‮ ‬وخير‮ ‬البر‮ ‬عاجله‮”.‬

لا يظنن أحد أني أتغنى بهذا العام الذي ولى، وأفرح به لأنني كسبت فيه مالا وفيرا، أو ملكت فيه متاعا كثيرا، أو نلت فيه منصبا كبيرا، وإنما أفعل ذلك لأن الله – الرؤوف الرحيم – منّ في هذا العام على ثلاثة شعوب من إخواني العرب فخلصها من ثلاثة حكام هم من شر ما خلق عتوا‮ ‬وفسادا‮ ‬فيما‮ ‬سبق،‮ ‬ونتضرع‮ ‬إليه‮ ‬أن‮ ‬لا‮ ‬يبتلينا‮ ‬بأمثالهم‮…‬
لقد‮ ‬ابتُليت‮ ‬أمتنا‮ ‬العربية‮ ‬في‮ ‬نصف‮ ‬القرن‮ ‬الماضي‮ ‬بحكام‮ ‬يحار‮ ‬المرء‮ ‬بماذا‮ ‬يصفهم،‮ ‬ولا‮ ‬بماذ‮ ‬ينعتهم،‮ ‬وإن‮ ‬اللغة‮ ‬العربية‮ – ‬أغنى‭ ‬اللغات‮ ‬وأقدرها‮ – ‬لتقف‮ ‬عاجزة‮ ‬عن‮ ‬وصف‮ ‬هؤلاء‭ ‬‮ ‬الحكام‮..‬
الذين اجتمعت فيهم – كما يقول أحد الحكماء – عيوب النفس وعيوب القلب، التي لا يصلحها إلا التقرب إلى الله، وهم أبعد الخلق عنه.. ويقصد هذا الحكيم، بعيوب النفس الشهوات الجسمانية من مآكل ومشارب ومساكن ومراكب وملابس و ملاعب يتجاوز فيها المعقول، حتى لقد قرأنا وسمعنا أن كل واحد من أولئك الحكام الثلاثة كان يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة مالا تملكه دول.. ولو كانت تلك القناطير المقنطرة حيزت بكد اليمين وعرق الجبين لهنأناهم عليها، ولدعونا لهم بالمزيد، ولكنهم حازوها بأخس الأساليب وأقذر الطرق والوسائل… وأما عيوب القلب يقصد هذا لاحكيم بها الشهوات القلبية كالتكالب على  السلطة، واللهاث وراء الرئاسة، والتخلق بخلق الشيطان وهو الكبر.. وقد كان أحد الناس قد أصيب بأحد عيوب القلب، فأبت عليه مروءته وهمته ذلك فصحا من سكره القلبي، وتاب، وخاطب قلبه قائلا: ألا أيها القلب الذي قاده الهوى أفق لا أقر الله عينك من قل، إن هؤلاء الحكام الذين يشعر الناس الأسوياء بالغثيان عند رؤيتهم أو سماعهم جاءوا إلى السلطة إما بالانقلاب أو بتزوير الانتخابات، ولهذا تميزوا بأمرين اثنين هما: الأخلاق المنحلة، والأنظمة المعتلة، ولكي يغطوا ذلك لجأوا إلى الاستبداد،‮ ‬والطغيان‮ ‬حتى‭ ‬لا‮ ‬يعترض‮ ‬أحد‮ ‬على‭ ‬سوء‭ ‬أخلاقهم‮ ‬وسوء‮ ‬تسييرهم‮.‬
إن الكذب في ديننا الحنيف يخرج صاحبه من دائرة الإيمان، ومصادف ذلك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام – سئل: أيكون المؤمن جبانا؟ فقال: نعم، وسئل: أيكون المؤمن بخيلا؟ فقال: نعم، وسئل: أيكون المؤمن كاذبا؟ فقال: لا، ثم تلا قوله تعالى: ” إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون‮”‬،‮ ‬وقد‮ ‬أعجبني‮ ‬قول‮ ‬الشاعر‮ ‬الفلسطيني‮ ‬سميح‮ ‬القاسم‮ ‬وهو‮:‬‭ ‬‮”‬إن‮ ‬احتياطي‮ ‬الكذب‮ ‬عند‮ ‬حكامنا‮ ‬أكبر‮ ‬من‮ ‬احتياطي‮ ‬النفط‮ ‬والغاز‮ ‬في‮ ‬بلادنا‮”.‬
إن‮ ‬شناعة‮ ‬الكذب‮ ‬وبشاعته‮ ‬وإسفافه‮ ‬بالانسان‮ ‬هي‮ ‬التي‮ ‬جعلت‮ ‬أبا‮ ‬سفيان‮ – ‬عندما‮ ‬كان‮ ‬مشركا‮ – ‬يتنزه‮ ‬عن‮ ‬الكذب‮ ‬عن‮ ‬رسول‮ ‬الله‮ – ‬عليه‮ ‬الصلاة‮ ‬والسلام‮ – ‬وهو‮ ‬عدوه‮ ‬اللدود‮ ‬أمام‮  ‬هرقل‮ ‬الروم‮.‬
إن هؤلاء الحكام تنطبق عليهم مقولة الإمام محمد البشير الإبراهيمي – رحمه الله – وهي أنهم “جاهليون من غير أخلاق الجاهلية”، وينطبق عليهم قوله – سبحانه وتعالى: ” ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في‮ ‬الأرض‮ ‬ليفسد‮ ‬فيها‮ ‬ويهلك‮ ‬الحرث‮ ‬والنسل‮…”.‬
إن كل واحد منهم يقسم – وقد يكون غير طاهر – على المصحف الشريف أن يحترم الدستور، وما من دستور إلا حدد المدة الرئاسية بعهدتين، ولكن ما إن تقترب العهدة الثانية من نهايتها حتى يطلق من لا خلاق لهم يجوبون الشوارع والساحات، مقابل دراهم معدودات، يدعون لاستمراره في السلطة،‮ ‬فـ‮ ” ‬يستجيب‮ ‬لإرادة‮ ‬الجماهير‮”‬،‮ ‬فيدعو‮ “‬رجال‮ ‬القانون‮” ‬ليعدلوا‮ ‬الدستور،‮ ‬و‮”‬النواب‮ ‬والنائبات‮”‬‭ ‬للتصويت‮ ‬بعدما‮ ‬يكون‮ ‬قد‮ ‬وعدهم‮ ‬ومناهم‮.. ‬ويا‮ ‬ضعة‮ ‬المروء‭ ‬والأخلاق‮.‬
إن كارثة  الكوارث – لو تمت – هي أن هؤلاء الحكام الجبارين كانوا يهيئون أبناءهم لوراثتهم في الحكم والسلطة، وقد سمعت أحد الإخوة يقول: إن الشاب التونسي بوعزيزي – غفر الله له – قد خلصنا من كربين عظيمين، هما:
1) كَرْب العهدات الرئاسية المفتوحة إلى أن يتدخل ملك  الموت.. وقد سمعنا المسمى “الرئيس الهارب” يقول عندما سقط في يده: “لا رئاسة مدى الحياة”، كما سمعنا ذلك الذي كان يقول بلسان الحال: “أليس لي ملك مصر..” يقول عندما أحيط به: “لم أكن أنتوي الترشح لعهدة جديدة”، وسمعنا من أطاح بملك وسمى نفسه ” ملك ملوك افريقيا” يقول بعدما اهتزت تحت أقدامه ما كان يسميه “العزيزية”: “أنا لو كنت رئيس لرميت الاستقالة على وجوهكم”، ورأينا ذلك الذي لم يستفيد من حكمة امرأة – هي بلقيس – ينفي نيته في البقاء في السلطة، وكل ذلك قولهم بأفواههم،‮ ‬وإن‮ ‬يقولون‮ ‬إلا‮ ‬كذبا‮.‬
2) وأما الكرب الثاني الذي خلّصنا منه البوعزيزي، غفر الله له ورحمه، فهو توريث هؤلاء الفاسدين في أنفسهم، المفسدين في البر والبحر والجو، لأبنائهم وأقاربهم.. فاللهم لك الحمد والشكر عدد الشجر والحجر والبشر وعدد الكائنات مما خلقت وستخلق إلى يوم الحشر على تخليصنا‮ ‬من‮ ‬هذه‮ ‬الآفات‮ ‬الآدمية،‮ ‬ونطمع‮ ‬أن‮ ‬تزيد‮.‬

مقالات ذات صلة