بوسعادة- المسيلة: تعاونٌ علمي مثمر!

من النادر أن يتم في مؤسساتنا الجامعية تنظيم تظاهرات علمية مشتركة بينها إذا استثنينا بعض الحالات كتلك التظاهرة الضخمة في مجال الهندسة الرياضياتية التي أقيمت بمدينة الوادي بين المدرسة العليا للأساتذة بالقبة وجامعة الوادي عام 2005 على مدى أسبوعين. لكن التظاهرة التي اشتركت في تنظيمها خلال اليومين 25 و 26 أكتوبر 2023 المدرسة العليا للأساتذة ببوسعادة وجامعة المسيلة يعدّ نشاطا من نوع آخر؛ ذلك أن أشغالها جرت في اليوم الأول بجامعة المسيلة، ثم انتقل المشاركون في اليوم الموالي إلى مدرسة بوسعادة، على بعد 60 كلم، لتتواصل فيها فعاليات الملتقى.

الرياضيات والمجتمع
اتفق الواقفون على مخبر البحث في التحليل الدالي وهندسة الفضاءات بجامعة المسيلة وقسم الرياضيات بالمدرسة العليا للأساتذة ببوسعادة على تنظيم هذا الملتقى الوطني المتميّز في موضوعه الموسوم “ملتقى الرياضيات، والرياضيات والمجتمع” الذي فتح الباب واسعا لكل من يريد أن يدلو بدلوه في هذا الموضوع المتشعب.
وهكذا ركزت عدة محاضرات على الذكاء الاصطناعي، تاريخه ومدى فاعليته ومستقبله، وكانت من أبرز المداخلات في هذا المحور محاضرة الأستاذ سلامي سعدي (جامعة الجلفة) الذي أكد تغلغل أدوات هذا العلم في كل القطاعات وفي كل مناحي حياتنا. وتلته مداخلة الرياضياتي الأستاذ نور الدين بن حميدوش (جامعة المسيلة) الذي تناول رهانات التطور التكنولوجي بصفة عامة ودور الرياضيات في مواكبة هذا التطور. لكن المعلوماتي الأستاذ السعيد قادري (جامعة المسيلة) جادل في موضوع روابط الرياضيات والذكاء الاصطناعي ولم يتفق كثيرا مع ما ذهب إليه زميله بن حميدوش الذي رأى أن الرياضيات لها حصة الأسد في تقدم الذكاء الاصطناعي وغيرها من التكنولوجيات.
والرأي الأصوب في نظر الزميل قادري هو أن المعلوماتية ومبتكراتها هي التي جعلت بالدرجة الأولى الذكاء الاصطناعي يتقدم بهذه الوتيرة وشكك في بعض النسب المئوية التي أتى بها زميله بخصوص مساهمة الرياضيات والمعلوماتية في تقدم الذكاء الاصطناعي الذي يقيم الأرض ولم يقعدها هذه الأيام. والواقع أن لكل فن علمي دورَه ونصيبه في التقدم الذي نشهده اليوم في كافة المجالات، فإذا كانت المعلوماتية قد رأت النور من حاجيات الرياضيات والفيزياء ونحوهما، فإنَّ الذكاء الاصطناعي استغل في انطلاقته ومسيرته الوثابة كل ما وجده أمامه من نتائج علمية تنتمي إلى عالم المعلوماتية والرياضيات والفيزياء وتكنولوجيات أخرى، ومن الصعب تحديد نسب مئوية دقيقة توضِّح مدى إسهام كل علم في تقدُّم الذكاء الاصطناعي.
ومن يتتبَّع مسيرة الذكاء الاصطناعي منذ منتصف القرن العشرين، يدرك أنَّ هذا الفرع العلمي عرف عدة محطات ومرّ بسنوات عجاف لأن رجال الصناعة لم يكونوا واثقين في مرحلة معينة من مردودية تمويلاتهم؛ وحتى الباحثون لم يكونوا متأكدين من جدوى أبحاثهم في الميدان. ثم حدثت المفاجأة في السنوات الأخيرة، وعاد قطار الذكاء الاصطناعي إلى السكة، وصار من القطارات فائقةِ السرعة! والذكاء الاصطناعي ليس المحور الوحيد الذي شغل بال المشاركين في الملتقى، إذ نجد منهم من تناول أيضا الرياضيات والطب وتطبيق الإحصاء في جائحة كورونا وغيرها.

من يتتبَّع مسيرة الذكاء الاصطناعي منذ منتصف القرن العشرين، يدرك أنَّ هذا الفرع العلمي عرف عدة محطات ومرّ بسنوات عجاف لأن رجال الصناعة لم يكونوا واثقين في مرحلة معينة من مردودية تمويلاتهم؛ وحتى الباحثون لم يكونوا متأكدين من جدوى أبحاثهم في الميدان. ثم حدثت المفاجأة في السنوات الأخيرة، وعاد قطار الذكاء الاصطناعي إلى السكة، وصار من القطارات فائقةِ السرعة!

ومن المحاور المهمة التي عالجها الملتقى موضوع تدريس الرياضيات وإشكالياته عند المربِّي والتلميذ والأستاذ والطالب. وهكذا تابع المشاركون مداخلة الأستاذ محمد بوضياف (المدرسة العليا للأساتذة بالقبة) باهتمام حين تحدَّث بوجه خاص عن النمذجة وتطبيقاتها في دروس الرياضيات لدى التلاميذ. و”النمذجة” هنا هي بالمفهوم التعليمي وليس بالمعنى الذي يقصده الباحثون في الرياضيات باعتبارها فرعا من فروع الرياضيات التطبيقية (أو القابلة للتطبيق). وفي سياق مماثل، تناول الأستاذ محمد شطيطح (مدرسة القبة) موضوعا شائكا تخلت عنه تقريبا المدرسة الجزائرية في زمن إصلاحات المنظومة التربوية التي عانت كثيرا خلال القرن الحادي والعشرين. والموضوع الذي نعنيه هنا هو نوعية درس الهندسة وإنشاءاتها. وختم المحاضر حديثه بتقديم بعض المقترحات.

فلسطين الحاضرة
ومن القضايا المعروفة في الرياضيات ومازالت تسيل كثيرا من الحبر مسألة الخطأ وأهميته في التعليم والتحصيل المعرفي. وقد تناولت هذا الموضوعَ الأستاذة ليليا بوعام (جامعة تيزي وزو) متَّخذة الرياضيات كأنموذج، علمًا أنَّها باحثة في علم النفس التربوي. ولم ينس المنظمون تاريخ الرياضيات إذ أتاحوا للأستاذ مقتدر زرُّوقي (العاصمة) تقديم بسطة عن الكسور في التعليم التقليدي في منطقة المغرب العربي الكبير بين القرنين 12م و15م. ومن المداخلات التي لها صلة بتاريخ الرياضيات نجد مداخلة قصيرة للأستاذ محمود شنتي (العاصمة) حول الرياضيات والتشفير.
وبطبيعة الحال، فالرياضيات البحتة كانت حاضرة مثلا في محاضرة الأستاذ فريد مسلمي (جامعة الجلفة) حين تناول ما يُعرف بالأعداد الثنوية ودوالها. وقد شدت هذه المحاضرة انتباه الكثيرين. وهناك أيضا مداخلة الأستاذ أحمد بن جدو (جامعة سطيف) حول المعادلات التفاضلية وجُمَلها، الذي أراد أن يلطّف جوّ القاعة ببوسعادة عندما استهل محاضرته فلاحظ أنه “بوسعادي لكنه يلقي محاضرة لأول مرة في بوسعادة”!
وبصفة عامة، فقد توافد المشاركون من نحو 20 مؤسسة جامعية منتشرة في كافة ربوع الوطن. ويعتزم المنظمون -الذين بذلوا جميعا جهودا يُشكرون عليها- تكرار هذه التجربة لتشمل في التنظيم جامعة الجلفة وتكون بمدة أطول. وما لفت الانتباه خلال هذا الملتقى -ونحن نعيش أجواء ساخنة ومؤلمة في الشرق الأوسط- أن فلسطين كانت حاضرة في الافتتاح (دقيقة صمت) وفي كثير من المداخلات والمناقشات الجانبية.
ومن غريب الصدف أنه خلال الفترة ذاتها (24- 25 أكتوبر 2023) نظمت الأكاديمية الجزائرية للعلوم والتكنولوجيا ندوة كان عنوانها “الرياضيات والمجتمع” وخلالها ألقِيت 6 محاضرات عن أجيال الهواتف، والتشفير، ووضع الرياضيات في الجزائر، والرياضيات في فرنسا، والرياضيات والصناعة، فضلا عن تنظيم 3 موائد مستديرة: الرياضيات والمجتمع، والتكوين في الرياضيات، واتجاهات الرياضيات والمعلوماتية.
وقد شارك في كل من هذه الموائد 5 أساتذة، منهم وزير التربية السابق الأستاذ محمد واجعوط وهو مختص في الرياضيات، وبهذه المناسبة قدّم في مداخلته تصورا لما يراه حول قضية التكوين في الرياضيات، وحاول إبراز أهمية هذه المادة التعليمية وعلاقتها بالعديد من العلوم، وكذا بمختلف مناحي الحياة. ولم يَفتْهُ تقديم بعض المواصفات لما يجب أن يكون عليه حال تكوين المكونين والمناهج وطرق التدريس باستخدام سبل تشويق التلاميذ لهذه المادة وجعلهم يتعلّمونها وهم يشعرون بالاستمتاع بالرياضيات.
نتمنَّى أن تتواصل هذه الجهود في كسر الحواجز وأن تتكرَّر مثل هذه المناسبات العلمية، والنقاشات الهادفة في مجال تدريس الرياضيات وغيرها من المواد التعليمية للنهوض بالجانب التحصيلي في مدرستنا.