الرأي

بوناطيرو.. وإعلام الدراويش!

تقول الحكمة العربيّة “من كثر لغطه كثر غلطه”، وإذا كان هذا المعنى موجَّهًا لعامّة الناس، لانشغالهم بالحديث في كل شيء، فإنّ المنتسبين لأهل العلم أولى بفحواه، لكن من الغريب أن لا يأبه رجلٌ في مقام لوط بوناطيرو لهذه النصيحة الذهبيّة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فهو لا يفوّت فرصة إعلاميّة إلا وخرج على الملأ، بما يثير في قلوبهم الفزع، ويرسم الحيرة على عقولهم، بل بلغ به الأمر أن يفتنهم في دينهم ومعتقداتهم، فهل تراهُ يُصدِر آراءه عن علم موثوق، أم أنّها جريرة الإعلام الذي طغت عليه نزعة الإثارة، فلم يعُدْ يفرّق بين السبْق الصحفي في نقل الأخبار وتشجيع الدروشة، باسم المعرفة والاختراع والطبّ والدّين وسواها؟
قبل أيام نشر موقع “الشروق أون لاين” مقالاً حول “الظاهرة البوناطيريّة” دبّجه البروفيسور أمين أحريش، الباحث بمركز عبد السلام الدولي للفيزياء النظرية بإيطاليا، نسف من خلاله الهالة الكبيرة التي ترسّخت في الأذهان حول عبقريّة الرجل، لكن الكاتب حذّر الإعلام الوطني، في عتابٍ مبطّن ومهذّب، من صناعة الدراويش على الطريقة المصريّة التي بشّرت العالم بمخترع علاج “الأيدز” اللواء عبد العاطي كفتة، ولم يكن المسكين سوى حلقة سامجة ضمن مسلسل الكذب في إحصاء إنجازات حكم الفريق عبد الفتاح السيسي.
لا يمكن أن نناقش بوناطيرو وأمثاله في دعاواهم الواهية، وأمْره متروكٌ للمختصين، وقد ضاقوا به ذرعًا في الآونة الأخيرة، بعد ما ألِف عادة الظهور، حتّى صار عبئًا عليهم، لكنّنا بكل تأكيد كصحفيّين ومؤسسات إعلاميّة نتحمّل وزر هؤلاء في بثّ الدروشة بين الجمهور، في موقف يناقض تمامًا رسالة الإعلام في صناعة الوعي.
طبعًا نقدُنا للإعلام لا يقتصر على تبنّى “ظاهرة بوناطيرو”، بل قد يكون أقلّهم ضررًا، فقد روّج من قبل لرقاةٍ ودعاة مشبوهين، ومُخترعين لأدوية لم يعتمدها أيّ مخبر، حتّى صارت العلاقة محلّ شبهة وسخط من المتلقّين.
قد يدافع زملاء أو معجبون بضيوف الإعلام المُثيرين للجدل، فيرفعون شعار “الحق في الإعلام”، أو دوره الآلي في نقل النقاش العام من دون قيد أو رقابة مسبقة على الأفكار والأشخاص، ولا شكّ أنّ ذلك صحيح من حيث من المبدأ، شريطة الالتزام بقواعد الحياد والموضوعيّة والرأي الآخر، حتى لا تتحوّل مواكبة الواقع إلى ترويج ودعاية على حساب الحقيقة والعقل.
عندما يكون الإعلام مضطرّا، بمقتضى دوره التقليدي، لاستقبال أدعياء المعجزات في كلّ المجالات، فوجب أنْ يتحرّى النزاهة في تقصّي الحقيقة بفتح المجال أمام المختصّين لدحض الحجّة بمثلها، وردّ الشبهة العلميّة باليقين الجازم، بل شدّ الرحال إليهم لطلب الرأي الصواب، بدل الكفاية بتسويق الأوهام والخرافات باسم العبقريّة والعصاميّة والكرامات!
إنّ المتابع لما تُشهره وسائل الإعلام الخاصّة بهذا الشأن لن يكلّف نفسه مشقّة التدقيق، ليقف على التساهل الواضح في التعاطي مع موضوعات علميّة وطبيّة ودينيّة واجتماعية في غاية الحساسيّة، إلى درجة معالجتها بسطحيّة قاتلة، دون أدنى شروط للأهليّة المهنيّة في المجادلة والحوار، فضلاً عن تغْييب الطرف المُوازن في غالب الأحيان، بينما الأصل أن نتعامل مع تلك القضايا الساخنة بحذر واحترافيّة ومسؤوليّة، مُراعين صداها الخطير في تشكيل عقل المجتمع وثقافته.
الإقرارُ بالأخطاء ليس نقيصةً، لكن العيب هو التمادي فيها والانحراف عن معالم الرسالة الإعلاميّة النبيلة تحت دوافع المنافسة والتجارة وذريعة “ما يطلبه الجمهور”، لأنّ ذلك سيهوي بالإعلام إلى وضع التابع لا المتبوع.

مقالات ذات صلة