-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“بيداغوجية ريفكا” تهدّد تعليمنا!

“بيداغوجية ريفكا” تهدّد تعليمنا!

تقرن المنظومات التربية في كل بقاع العالم في بناء مناهجها التعليمية شق المضامين المعرفية: (حقائق، تعميمات، مفاهيم، نظريات، قوانين، نماذج…) بالشق البيداغوجي، فهما كالتوأم السيامي الملتصق، ولا تعمل على الفصل بينهما. وكثيرا ما تلجأ أثناء مراجعة المناهج إلى التغيير في الجانبين معا تغييرا يساير المستجدات، ويأخذ من أوعية الجديد المستهدَف.

لا يحصل تجويد التعليم ورفع مردوده إلا بتطبيق أرقى الطرائق البيداغوجية التي تخدم المتعلم، وتمنح لتعلماته اليومية معاني جوهرية ذات قيمة، وتخط امتدادات واضحة في حياته المعيشة في بعديها الفردي والجماعي، الآني أو المستقبلي، وتزوده بالتكوين الذي يستند إليه لمجابهة المشكلات التي قد تعترضه حتى يعمل على قهرها وفك عقدها بأسلوب فيه تقليل في الطاقة المصروفة واختصار في الوقت المستغرَق.

يُظهر الفيديو هذا “الأستاذ” في مواقف تهريجية تميزها فورات هيجان متواصلة، ويُرى متمايلا يمنة ويسرة مرددا وِصلات غنائية بكلمات عامّية غير موزونة ومفصولة العلاقة عن التربية وقيّمها والمتعلمون يرددون معه في فوضى واضطراب وبالتصفيق كما يفعل المشجِّعون في الملاعب. وبين الحين والحين، يدلي ببعض الجمل المتقطعة التي تتعلق بالمادة المُدرَّسة.

توصف العملية التعليمية الناجحة، دوما، بأنها عملية بنائية، أي يجري في ركبها وصيرورتها تشييدُ المعرفة العلمية في ذهن المتعلم. والذي توكل إليه هذه المَهمَّة هو المتعلم نفسه الذي لا يجوز أن ينوبه أحد، بما في ذلك المدرِّس، في إعداد هذه الإنجاز. ويختلف بناء المعارف في الأذهان من متعلم إلى آخر بحسب درجات التهيؤ والتفاوت في القدرات العقلية.

قبل سنوات، ظهرت في فرنسا أستاذة في مادة الرياضيات تسمى Houria Lafrance  (قد يكون الاسم مستعارا)، وهي ابنة “جزائري” حرْكي خان الثورة الجزائرية، وهاجر إلى فرنسا مع أمثاله في سنة 1962م، وادّعت أنها تدرس الرياضيات بطريقة مبتكرة تعتمد على الرقص دعتها: “الرياضيات على الرُّكح Les maths en scène”، وقوبلت محاولتها بالاستهجان من طرف الكثيرين. وفي الأيام الأخيرة، سرى عندنا فيديو يُظهر “أستاذا” في مادة التاريخ والجغرافيا، وهي من مواد الهُوية الوطنية، يقدِّم دروسا في جو غنائي مليء بالصخب والضجيج وبكل مواصفات الهرج والمرج.

يبدو أن هذا “الأستاذ” قد تأثر كثيرا بصيحات الملاعب حتى اختلطت عليه الأمور، ولم يعد يفرِّق بين فضائي ملعب كرة القدم والقسم. وأراد أن ينقل أجواء الملاعب العكرة بكل ما فيها من ضوضاء وضجيج إلى أجواف أقسام التعليم. وحسب ما يظهر في الفيديو المعروض، فإنه حشد في مقر واسع ما يقارب مائة وخمسين متعلم ومتعلمة حشرهم حشرا، وأجلسهم في اكتظاظ مقلق. ويبدو لي، وحسب تقديراتي، فإن هذا المحشر هو مقرٌّ من مقرّات الدروس اللصوصية المنبوذة. ويُظهر الفيديو هذا “الأستاذ” في مواقف تهريجية تميزها فورات هيجان متواصلة، ويُرى متمايلا يمنة ويسرة مرددا وِصلات غنائية بكلمات عامّية غير موزونة ومفصولة العلاقة عن التربية وقيّمها والمتعلمون يرددون معه في فوضى واضطراب وبالتصفيق كما يفعل المشجِّعون في الملاعب. وبين الحين والحين، يدلي ببعض الجمل المتقطعة التي تتعلق بالمادة المُدرَّسة.

يصف “الأستاذ” الذي لا يفرِّق بين الشعبي والشعبوي في هرطقاته البيداغوجية طريقتَه المعتوهة بـ”الطريقة التحفيزية”. وهو يجهل أن التحفيز المطلوب في أقسام الدراسة هو تثويرٌ لقدرات المتعلمين وإثارتها واستنهاضها وبعثها من مراقدها من خلال رجّ الوظيفة العقلية بطرح مشكلات تثير الانتباه، وتوقظها من سباتها، وترفع عنها غشاوة الكسل ومسبِّبات التثاقل والوهن.

ينسى “الأستاذ” الذي يبحث عن موطئ أصبع يبني عليه شهرة مزيَّفة يصلها من بعد الزحف في طريق ملتوية، ينسى أن الممارسة التعليمية الفصلية هي عملية هادئة، ولا تتم إلا في خضم سكينة تامة. ويغرب عن باله أن استفادة المتعلم العظمى لا تأتيه إلا من جهده الفردي أو من الجهد المشترك لزملائه في إطار تعاونهم ضمن مجموعة مصغرة تشتغل في تآزر وانسجام وتكامل. وقبل كل ذلك، يتجاهل أنه مطالَب بتنفيذ مناهج وزارية مقررة لا يجوز التصرف فيها أو الحياد عنها. ومثلما يطلب منه الالتزام بالمعارف العلمية المقيدة فيها فهو مرغم على إتّباع المقاربة التدريسية المسطرة في هذه المناهج. وإن الحياد عن هذا الأمر فيه تقصير وخيانة في أداء الواجب الذي ذكره في بعض كلماته. والواجب أمام الأجيال لا يكون واجبا إلا إذا جمع كل أركانه في جملتها وفي تفصيلها. فكيف يتحدث من يخلُّ بركن جوهري من أركان تنفيذ المناهج التعليمية عن الواجب؟. وأما “التضحية من أجل المتعلمين” التي أومأ إليها في كلماته القليلة فلا بد أن تمر عبر طريق ما هو مقرر عليهم في جزئه المعرفي وفي صنوه الملتحم به الذي يقصد به الجزء البيداغوجي.

نعلم أن مادتي التاريخ والجغرافيا هما مادتان تتطلبان إنتاجا يخطه المتعلم بفكره وقلمه لمّا يلِج قاعات الامتحان. ومن أسباب تراجع نتائج متعلمينا في فروع الآداب في امتحان الباكالوريا هو ضعفهم وقلة قدراتهم على الإنتاج الكتابي في هاتين المادتين وفي الفلسفة والأدب العربي وفي اللغات الأجنبية. وإذا كان هؤلاء يقضون حصص تعلمهم في اللغط والغناء والهتاف، فمتى يتدرَّبون على الإنتاج الكتابي الأدبي والعلمي الذي يرفع من حظوظهم في النجاح؟.

يذكر “الأستاذ” أن هذه الطريقة العوجاء هي من ابتداعه. وإن كان لكلِّ طريقةٍ بيداغوجية جذورٌ وأسس، فهل يستطيع أن يحدِّثنا عن أصولها وعن أرومة نسبها؟. أم هي طريقة لقيطة لا أصل لها ولا فصل؟. ولا بأس أن نستطرد، إن سمح، لنسأله: هل يمكن أن ينتفع بها أساتذة بقية المواد التعليمية؟ وهل تصلح لتدريس مادتي الرياضات والفيزياء، مثلا؟. وإذا كان المتعلمون لا يقوَّمون في نهاية المطاف إلا تبعا للطريقة التي تعلّموا بها، فكيف يقوِّم هذا “الأستاذ” متعلميه؟. هل يقوّمهم بتكليفهم بالغناء والتطريب والترنم والعويل والشوشرة؟. وما المعايير والمؤشرات التي يعتمد عليها في تنقيطهم بإنصاف وعدل؟. ولو طبِّقت هذه البيداغوجيا الفوضوية، فكيف سيمسي حال مؤسساتنا التعليمية بعد مضي وقت قصير من الزمن؟.

ليست البيداغوجيا فعلا مبتذلا ومحتقرا إلى حد يطمع للاقتراب منها كل من تعلم حرفا منها، وإنما هي علم متين ورصين وصور بستانها عال وقوامه صلب، ولا تقبل أن يمتطي ظهرها من طرف كل من هب ودب. ولا تسمح لمهرِّج أن يحلم بكتابة اسمه في نفس القائمة التي تضم أسماء أفذاذها وأساطينها كأبي حامد الغزّالي وماريا مونتيسوري وجان بياجي، وغيرهم حتى وإن اغترّ بانطباعات بعض متعلميه التي لا يمكن الاعتدادُ بها طالما أنهم في مستوى تكويني ووضع نفسي يُسقطان الموضوعية عن أحكامهم.

والآن نقترب من بيت القصيد وبؤرة القضية، فلم نكن نصل إلى هذه الحالة البائسة من الاستهتار بالبيداغوجيا ذات القيمة الذهبية الغالية في كل ميدان تعليمي لولا السماح بانتشار محابس وزرائب الدروس اللصوصية التي تهدد وجود مدرستنا الوطنية، وتتوعدها بالغدر والشر في كل مرة حتى جاء من يتجرّأ على إسقاط علم البيداغوجيا المزهر والمشرق إلى حضيض الحضيض والزج به إلى أسفل الدركات.

ويبقى على أهل الحل والعقد أن يتحركوا لمحاربة مثل هذه السخافات الخرافية النابعة من شذوذ فكري شديد الاعتلال، وأن يجفِّفوا مستنقعات الدروس اللصوصية التي وفرت بيئاتٍ للانحراف الظاهر الذي ينخر جسم تعليمنا اليوم الذي يصنع صورة غدنا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!