-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بيروت مدينة تكتب وتطبع وتقرأ

أمين الزاوي
  • 6358
  • 0
بيروت مدينة تكتب وتطبع وتقرأ

من زمن كانت فيه “بيروت تطبع والقاهرة تكتب والعراق يقرأ” إلى هذا الزمن حيث “الجميع يطبع ولا أحد يقرأ” ما الذي يجري من حولنا أيها السادة؟

  • حتى وإن قال عنها أدونيس ظلما “بيروت مدينة بلا هوية” فهذا غير صحيح على الإطلاق وجناية في حق حقل الرموزية العربية.
  • إنها مدينة وأكثر من ذلك إنها مدينة الكتاب والكتاب وفضاء مفتوح للنقاش. والمدينة التي يرتبط اسمها ووجودها بالكتاب تظل قائمة وكبيرة في القلوب وفي التاريخ. وبيروت مدينة هويتها الكتاب ومواطنوها الكتاب.
  • “بيروت تطبع والقاهرة تكتب والعراق يقرأ”: لقد ظل هذا الشعار مرفوعا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بداية الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات، ألا يحق لنا اليوم أن ندقق النظر فيه نعيد قراءته ونتساءل عن مصداقيته وهل إنه ما يزال يعكس بالفعل الواقع الثقافي الراهن الذي دون شك قد تغير كثيرا وحصلت فيه انقلابات جوهرية، منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي؟
  • تظل بيروت مدينة التحدي حين يتعلق الأمر بالثقافة والإعلام. في بداية الثمانينات حين قصفت إسرائيل مطابع جريدة السفير ودمرتها عن آخرها، لم تستسلم الجريدة ولم تتباكى، ولم تتوقف عن الصدور ولا ليوم واحد، وفي الأسبوع الموالي كان عمال الجريدة يستقبلون مطبعة جديدة ويتم تركيبها في ظروف المقاومة والحرب لتطبع الجريدة في مطبعتها الجديدة بعد أقل من أسبوعين، تلك هي إرادة اللبناني حين يتعلق الأمر بالثقافة والإعلام.
  • وتلك مدينة مقاومة بالثقافي والحضاري.
  • حين تدخل بيروت تستنشق رائحة الورق والحبر وتسمع شهيق الورق على رقص المطابع؟
  •  يبدو لي أن جميع الدول العربية التي دخلت معركة صناعة الكتاب في النصف القرن الأخير بدءا من بلدان المغرب العربي وحتى بلدان الخليج لا تزال في رأيي تراوح داخل مربع “الهواة”. دور نشر بدون إستراتيجية واضحة ولا خط سياسي ثقافي واضح، الخط الواضح لدى الجميع هو التسابق على المال ولا شيء غير المال وهو في أغلب الأحيان على حساب الجدية والنظافة الفكرية، هو سباق “بالطبع” ضد هوية “الكتاب” نفسه.
  •  نعم وحدها بيروت سيدة الاحترافية في صناعة الكتاب العربي.
  •  إلى ماذا يعود ذلك؟
  •  أولا يقول المؤرخون المتخصصون في تاريخ اللغات والكاليغرافيا بأن أول أبجدية مكونة من اثنين وعشرين حرفا وجدت في منطقة بيروت. وأنها رحلت من هناك إلى اليونان والعرب وأوروبا. ثم إن علاقة اللبنانيين بالمطبعة من خلال الطائفة المارونية التي تضم كثيرا من المثقفين العرب المتنورين الذين أسسوا للنهضة العربية العقلانية هي علاقة عريقة وطبيعية، لقد قامت أنتلجانسا الطائفة المارونية بعمل مفصلي في تاريخ العرب والعربية وذلك بقيامهم بتعريب المطبعة اللاتينية، كان ذلك في القرن السادس عشر، ومن يومها دارت المطابع بالحرف العربي. ودار العقل العربي أيضا!
  • ويعود نجاح بيروت في صناعة الكتاب إلى  ثلاثة عوال أساسية:
  •  1 ـ التنوع الثقافي والحرية التي يتمتع بها هذا البلد منذ نشأته وحتى اشتعال الحرب الأهلية في منتصف السبعينات.
  • 2 ـ يعود نجاح حضارة الكتاب ثقافة وتجارة وصناعة في بيروت إلى شيء مركزي وأساسي آخر وهو أن الذين تولوا مهمة نشر الكتاب وتوجهوا إلى إنشاء دور نشر كانوا يمثلون نخبة من المثقفين الذين ساهموا هم أنفسهم من موقع الكتابة الأدبية أو الفكرية في صياغة بيانات الحداثات وشكلوا أيضا جنودا فيها ولأجلها على اختلاف رؤاهم للحداثات: حداثة قومية، حداثة أوروبية، حداثة تراثية، حداثة ماركسية وغيرها.
  •  كان على رأس هذا الفريق الدكتور سهيل إدريس (1925ـ 2008) صاحب مجلة الآداب« التي أسسها سنة 1953 ثم دار الآداب التي أسسها بالاشتراك مع الشاعر الكبير نزار قباني سنة 1956، ولم يكن سهيل إدريس غريبا عن هذا المشروع الذي فتحه بل كان جزءا فيه وله، فهو روائي ومترجم ومناضل ثقافي قاد من خلال المجلة والدار معركة من أجل المعاصرة الأدبية، فكانتا بحق مرجعية في التحول الثقافي العربي ورمزا للوجود الأدبي لأهم الأسماء الأدبية في الرواية والقصة والشعر في النصف قرن الماضي. ولا تزال الدار، حتى بعد رحيل الدكتور سهيل إدريس، تصنع الحدث الأدبي بامتياز في العالم العربي، في الرواية والترجمة الأدبية وذلك دليل على عمق وتراكم التجربة.
  • وكان من عمداء النشر في بيروت أيضا الدكتور بشير الداعوق (توفي في أكتوبر 2007) وهو مؤسس وصاحب دار الطليعة التي أسسها سنة 1960 وهو زوج الكاتبة غادة السمان وهو مفكر اقتصادي متميز ومثقف قومي جريء وهو أحد أهم مؤسسي مركز دراسات الوحدة العربية وعضو مجلس أمنائه ولجنته التنفيذية منذ تأسيسه، وهو الذي نشر كتاب “نقد الفكر الديني” للدكتور صادق جلال العظم ويتذكر مؤرخو الفكر ما خلفه هذا الكتاب من ردود أفعال وردود مضادة أثرت الفكر العربي على مدى ثلاثين سنة ولا يزال الحوار قائما حتى الآن حول الإشكاليات ذاتها، وقد شكلت هذه الدار مدرسة كبيرة من خلال ما كانت تنشره ومن خلال مجلتها الفكرية أيضا دراسات عربية« التي كانت الصوت العالي الذي ينتظره القراء من الخليج إلى المحيط.
  • يعود نجاح بيروت في خوض معركة الكتاب إلى أن الذين خاضوها كانوا جزءا مركزيا في العملية الأدبية والفكرية، كانوا مساهمين فيها ومنشطين لها ومدافعين عنها. أما ما يلاحظ على هؤلاء ، أو على الأقل غالبيتهم، الذين يمارسون” النشر” أنهم لا يفرقون بين العمل في اقتصاد الثقافة وعلى رأسها الكتاب والعمل في تجارة “قطع غيار” السيارات المقلدة (pièces contrefaites).
  •  3 ـ ولعل الذي حمى حضارة الكتاب في بيروت أيضا هو الإعلام الثقافي والأدبي فالمشرفون على هذا الإعلام هم أيضا من منتجي الكتب من الشعراء والنقاد والروائيين. إن أسماء وازنة  ومحترمة في الساحة الأدبية العربية هي التي تتابع الصفحات الثقافية والملاحق الأدبية من أمثال: الشاعر عبده وازن أو بول شاؤول أو جمانة حداد أو عباس بيضون وإلياس خوري وشوقي بزيع وغيرهم والتي تولت أو تتولى الشأن الإعلامي الثقافي والأدبي في أكبر الجرائد كالنهار أو السفير أو الحياة، إن إعلاما جيدا هو الذي يكون حصانة لكتاب جيد وناشر جيد من أجل قارئ جيد.
  • لذلك، حتى وإن كان هناك عزوف على قراءة الكتب المطبوعة هنا وهناك في البلدان العربية التي تنتمي على صف الهواة فإن أغلب ما يطبع في بيروت وخاصة في دور النشر العريقة والجادة لا يزال يقرأ ويقرأ بنهم شديد.
  • إننا نحن في العالم العربي لا يمكننا تصور الكتاب دون بيروت. لقد ارتبطت صورة صناعة الكتاب بهذه المدينة أساسا وكأنما بنيت المدينة لتكون مكتبة كبيرة.
  •  بعد مدريد، الإسكندرية، نيودلهي، أنفير، مونرييال، توران، بوقوطا وأمستردام هاهو دور بيروت كعاصمة عالمية للكتاب قد جاء وإن كان قد تأخر قليلا.
  •  ولأن بيروت بحق وحقيقة عاصمة عامية للكتاب فقد لبى أهم كتاب الكرة الأرضية المعاصرين نداءها فوافقوا على المشاركة في ورشة حول بيروت ولقاء كتابها الحقيقيين وصحفييها الحقيقيين وناشريها الحقيقيين أيضا من أمثال: خوسي سارامانغو، أورهان باموك، أنطونيو لوبو أنطونيس، الطاهر بنجلون، نانسي هوستون، ميلان كنديرا، أمبيرتو إيكو، أنطونيو طابوتشي، مويان وغيرهم من نجوم الكتابة المعاصرة وصناع حدث الكتاب والنشر في العالم وفي كل اللغات ولدى كل القراء.
  •  و لأن اللبنانيين جميعا منخرطين في هاجس الكتاب كجزء من تعريفية مدينتهم فإن الاحتفال بالكتاب هو ليس عملا نخبويا يقتصر على بيروت الكبرى أو طرابلس أو صيدا إن الظاهرة تمس ناس المداشر والقرى والمدن الصغيرة حيث القارئ وحيث العرس الحقيقي الكتاب.
  • كانت بيروت أولى المدن العربية الثقافية التي ثارت على المركزية المصرية وسحبت الزربية، زربية الكتاب من تحت أقدام القاهرة الأسطورة.
  • شكرا لبيروت لأنها كانت دائما موصلة الأصوات الجادة في الكتابة دون تمييز، وكانت قناة الأدباء الجزائريين من أبي القاسم سعد الله مرورا بأحلام مستغانمي وصولا إلى فضيلة الفاروق.
  •  شكرا لبيروت لأنها تعلم من يريد أن يتعلم بأن الثقافة جبهة للقيم وللحضارة والنجارة الحضارية.
  • شكرا لبيروت، لأن من يقرأ تاريخ بيروت يقرأ تاريخ الثقافة العربية وتاريخ من صنعوها على اختلاف أطيافهم السياسية والجمالية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!