-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين الانقلاب والتصحيح… تونس إلى أين؟

بين الانقلاب والتصحيح… تونس إلى أين؟

ما حدث في تونس من قرارات رئاسية حساسة جاء مفاجئا جدا، على الأقلّ لمن توسّموا التعقّل والحكمة في النخبة التونسية على مختلف مواقعها، بل إنه أثار هواجس تجارب مأساويّة في جغرافيا الإقليم، حيث لا تزال تدفع ثمن الإقصاء الإسئتصالي الذي وأد الحلم العربي في التأسيس لانتقال ديمقراطي سلس، وأدّى بالمجتمع إلى حالة من الانقسام الخطير، يصعب تجاوزها مستقبلا إلا عبر مقاربة تصالحيّة.

لا نريد الخوض دستوريّا ولا سياسيّا في تفاصيل ما أقبل عليه الرئيس قيس سعيد، فهو شأن متروك للأشقاء في تونس، لا يحسن بنا التدخّل في تأويله أو قراءته بتحيّز، إلا أنّ الأمر يبدو في غاية الحساسية، لارتباطه بمبدأ جوهري في منظومة حكم الدولة المعاصرة، يخصّ تحديدا قاعدة الفصل بين السلطات، درءا لمفسدة السلطة الشمولية المطلقة، فضلا على أنه قد يشكل مساسا باستقلالية السلطة التشريعية الرقابية التي لا تقع إطلاقا تحت وصاية السلطة التنفيذية ولا غيرها، بل هي ندٌّ لها في مستوى أفقي ضمن دائرة الحكم للحفاظ على توازن السلطات.

هذا المعطى هو ما يدفع البعض إلى توصيف ما جرى بالانقلاب على الشرعيّة، وإن كان حتى الآن لا يرقى نهائيّا إلى ذلك، لكن المخاوف مشروعة في أن يكون تجميد عمل البرلمان، ولو مؤقتا، مقدمة ناعمة نحو مصادرة الإرادة الشعبيّة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما رافقها من حملة تجييش إعلامي ضد فصيل محدّد، وسط احتفاء عواصم الثورات المضادة بالتطور الحاصل في قرطاج، بل تطابقه مع تسريبات سابقة عن سيناريو جاهز لتغيير المعادلة السياسية في تونس، وهي كلها مؤشرات تستنسخ نماذج عربية سابقة.

في المقابل، فإنّ ما يخفّف من هاجس الانزلاق نحو التعفين هو تأكيد الرئيس قيس، من خلال خطابه الثاني الاستدراكي، على تشبثه بأحكام الدستور وصيانة الحريات وعدم حلّ البرلمان ودعوته الشعب التونسي إلى تفادي الاحتكاك البيني والاستجابة للاستفزاز، لأن الرجل يرى في خياره الاضطراري إنقاذا لبلاده من الانسداد المؤسساتي المفروض عليها بفعل التعنت الحزبي، وحماية لها من الخطر الداهم في ظل الأوضاع الاقتصادية والوبائية الاستثنائية، وبذلك فهو من وجهة نظره تصحيحًا لوضع غير سويّ يشكل تهديدا مُحدقا بكيان الدولة.

إنّ الأسابيع القادمة وحدها كفيلة بالحكم على إرادة قصر قرطاج في الرجوع بتونس إلى ما قبل 14 جانفي 2011، أو فتح آفاق جديدة أمام ثورة الياسمين، ملهمة الربيع العربي التي ظلت محافظة على رونقها البهيّ، برغم العثرات والمطبّات، في وقت جرفت العسكرة والدماء والتدخلات الأجنبية والثورات المضادة الانتفاضات العربيّة الأخرى نحو الهاوية إلى إشعار آخر، فلم تسلم كيانات الدول والمجتمعات من التفكك والانشطار وحتّى الانهيار.

إنّ مسؤوليّة السير بالبلاد نحو برّ الأمان سيكون على كاهل النخبة التونسية، سواء داخل منظومة الحكم أو خارجها، ومن الأحزاب والجمعيات المهنية القوية في تونس، ورموز الإعلام والثقافة والحقوقيين، إذ عليهم الإدراك أنّ آثار المعركة الدائرة رحاها الآن ومآلاتها البعيدة لن تكون بين قيس سعيد وراشد الغنوشي، ولا بين الإسلاميين والليبراليين واليساريين، لكنها في واقع الحال رهان وجودي بين الاستبداد والديمقراطية، بين الحريات والتسلطية الشموليّة، بين قوى التغيير الجديدة ومنظومة الدولة العميقة المتكلّسة.

لن يكون هناك طرف مهزوم وآخر رابح في حال الفشل في حماية المسار الديمقراطي، بل سيكون الجميع خاسرا، وقبلهم جميعا ستكون تونس الخضراء هي الخاسر الأكبر، بجعلها معرّضة لكل المخاطر المتربّصة بها في نفق المجهول.

لقد نجح الأشقاء التونسيون، بحكمة وتبصّر نادريْن، في تجاوز منعرجات أكثر تعقيدا ضمن مخاض الثورة، وهُم اليوم مطالبون باستحضار الذكاء التونسي وروح التعايش والبراغماتيّة الوطنيّة، للعبور مجدّدا بسلام نحو المستقبل.

نأمل أن تكون هذه الضارّة نافعة، بتحويل قرارات الرئيس قيس سعيد من مدخل لتعقيد الأزمة القائمة إلى فرصة مفتوحة نحو الانفراج، بالجلوس مرة أخرى على طاولة الحوار والتفاوض، باستعداد مسبق للتنازل والتوافق من أجل المصلحة العامّة، وقطع الطريق أمام التدخلات الخارجيّة التي تبحث عن أجنداتها الخاصّة، ولو بإشعال النيران في بيوت الآخرين وحرقها بمن فيها، لذلك نكرّر للمرة الألف أنّ مصير الوطن في كل مكان يقرّره أبناؤه الصادقون وحدهم، والفاعلون من خارجه لا يصنعون سوى التمدد في الفراغ.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!