-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الشهيد الطالب العربي ڤمودي

بين مطرقة الصومام.. وسندان بورڤيبة

محمد عباس
  • 5704
  • 0
بين مطرقة الصومام.. وسندان بورڤيبة

ساهم الشهيد الطالب العربي ڤمودي رفقة الجيلاني بن عمر وعبد الحي السعيد وعبد الكريم هالي في تأسيس نظام الثورة بتونس على الصعيدين السياسي والعسكري. وكان هذا النظام على صلة وثيقة بأحمد بن بلة ومساعدية. نظرا لمسؤوليته في عملية التسليح والتمويل خاصة انطلاقا من مصر وليبيا.

وكان الوفد الخارجي ونظام الثورة بتونس – قبل الصومام- على صلة ببقايا الثوار التونسيين، وأكثرهم من أنصار صالح بن يوسف الأمين العام للحزب الدستوري الحر وغريم رئيس هذا الحزب الحبيب بورڤيبة.

ومن أجل هذا وذاك وجد نظام الثورة في تونس نفسه بعد مؤتمر الصومام، واختطاف طائرة الوفد الخارجي – في أكتوبر 1956 – في وضعية لا يحسد عليه، بين مطرقة النظام البديل المنبثق عن المؤتمر وسندان بورڤيبة وأنصاره الساعين إلى مسك زمام الأمور في بلادهم، وفرض سيطرتهم ونفوذهم على مختلف المناطق (*)

ولد العربي ڤمودي (المعروف بالطالب العربي) سنة 1924 بنزلة أولاد حَمَدْ بوادي سوف.. وبها نشأ وتعلم ما تيسر من القرآن الكريم، قبل أن ينتقل إلى نفطة (بالتراب التونسي)، حيث درس قرابة عامين على يد الشيخ محمد بن حمد النفسي.. لكن ما لبث أن ترك التعليم، وتفرغ لامتهان الفلاحة مع عائلته.

وفي غضون 1950 عاد إلى الجنوب التونسي ليعمل بمناجم الرديَّفْ. وبعد فترة وجيزة أصبح مناضلا نقابيا في صفوف الاتحاد العام للشغل وبحكم موقعه هذا وجد نفسه في دوامة الكفاح المسلح الذي اندلع مطلع 1952، تلكم السنة التي شهدت نهايتها عملية اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد في 5 ديسمبر.. وكانت مشاركته في هذا الكفاح خاصة في مجال شبكات الإسناد المكلفة بإمداد الثوار التونسيين بما تيسر من المال والسّلاح – وإلى مجموعته انضم الشهيد الجيلاني بن عمر بعد فراره من الجيش الفرنسي المرابط بالناحية. وفي إطار الاتفاق المبدئي على منح تونس استقلالا داخليا قَبِلَ جناحٌ من المقاومة وضع السلاح في ديسمبر 1954، وكان في طليعته القائدان الساسي الأسود والمحجوب بن علي..

هذا التطور حدث غداة اندلاع ثورة التحرير الجزائرية في فاتح نوفمبر الفارط، وكان من نتائجه انكفاء الطالب العربي على نفسه بالرديف، وتكوين خلية سرية مع 12 من رفاقه، في انتظار اتضاح الرؤية وربط الاتصال بالمنطقة المجاورة (الأوراس) وقد وزع أعضاء الخلية على ثلاثة أفواج وقسم العمل بينها كما يلي:

– فوج للدعوة إلى الثورة برئاسة المكي بن علي

– فوج كلف بجمع الأسلحة أسندت رئاسته إلى المولدي بوغزالة

– فوج كلف بالتموين وعين على رأسه علي الباهي

 ودخل الطالب العربي ناحية الوادي بهذه التشكيلة معبأ ومجندا، وتمكن من تأسيس عدد من خلايا جبهة التحرير الوطني بكل من البياضة وحاسي خليفة والوادي ذاتها، حيث جدد الاتصال بالمناضل القديم محمد بالحاج ميهي العضو السابق في  “المنظمة الخاصة”.

وفي ربيع 1955 تمكن الجيلاني بن عمر من ربط هذه المجموعة الناشطة بالمناطق الحدودية جنوب تونس. بمنطقة الأوراس التي كان يقودها يومئذ البشير شيحاني نائب القائد الأسير مصطفى بن بولعيد. كلف شيحاني بن عمر بمهمتين:

– شراء المتوفر من الأسلحة لدى المواطنين التونسيين ونقلها إلى الأوراس

– تفعيل مشروع “جيش تحرير المغرب العربي”، بالتنسيق مع الثوار التونسيين الذين رفضوا تسليم أسلحتهم في إطار الاتفاق المبدئي حول “الاستقلال الداخلي”.

 

تأمين طريق قوافل الأسلحة

قبل الطالب العربي بكل تواضع العمل تحت قيادة الجيلاني بن عمر، وأخذ يشارك في عملية شراء الأسلحة ونقلها، هذه العملية الحيوية التي بدأت تؤتي ثمارها في يوليو من نفس السنة.

وبعد أن بدأت عملية تزويد الداخل بالأسلحة تحت إشراف الوفد الخارجي لجبهة التحرير – ممثلا في أحمد بن بلة ومساعده شرقا أحمد مهساس- عين على رأس وحدة، مكلف بمهمة تأمين مقطع من طريق القوافل داخل التراب التونسي ..وحدث أن استشهد الجيلاني بن عمر في 11 أكتوبر بحبل النڤب (تونس)، فآلت الأمور بعده – إثر فترة فراغ نتيجة اغتيال البشير شيحاني في نفس الشهر – إلى الطالب العربي عمليا، قبل أن يبادر عباس لغرور – أحد قادة المنطقة بالنيابة – بتثبيته في منصبه، كقائد سياسي وعسكري لكامل الجنوب الشرقي التونسي – وكانت المهمة الأساسية للوحدات التي يشرف عليها هي حماية قوافل السلاح القادمة من ليبيا عبر جبل الجنوب التونسي.

وحسب شهادة الأستاذ علي كرام فإن الطالب العربي رجل عصامي قليل الحظ من التعليم..

ويرسم لنا صورته كرجل معتدل القامة أسمر اللون رشيق حاد النظرات.. ويتميز بسلوك متواضع بحيث لا يكاد الناظر أن يميزه عن بقية جنوده.

ويفهم من رواية الشاهد أن الطالب العربي استفاد من اضطراب أمور القيادة بمنطقة الأوراس – النمامشة لاسيما بعد استشهاد بن بولعيد، فاستقل بإدارة شؤونه، وأصبح يتعامل مع بن بلة ومساعديه مباشرة. بل دعم مركزه بعد أن لجأ إليه العديد من جنود النواحي المضطربة في المنطقة.

ويقدر الشاهد تعداد قواته بنحو 300 جندي موزعة على ثلاث كتائب، مقسمة بدورها إلى عدة فصائل وأفواج، ومنتشرة بجهات مختلفة.

وراعى في توزيع الجنود على هذه الوحدات عاملي الخبرة والاختصاص، فجمع قدماء الحرب العالمية الثانية والهند الصينية، مع من لهم إلمام بالهندسة العسكرية وإصلاح الأسلحة وصيانة السيارات.. إلخ ويعزز الطالب العربي موهبته التنظيمية بعامل العلاقات الإنسانية الذي يتجلى في ملازمة جنوده وتعهدهم وتفقدهم باستمرار، وإشعارهم بأنه معهم في السراء و الضراء، كما كان حريصا على حياتهم وراحتهم في نفس الوقت.

وينقل عنه علي كرام في هذا الصدد قوله: “إن الجندي رأسمال الثورة ودرعها الحصين” وكان رجل تكتيك عسكري كذلك ماهرا في توظيف حيل الحرب.. مثل الإيهام والمباغتة والتضليل ..وكان يلح على جنوده أن يلحقوا بالعدو أكبر قدر من الخسائر، بأقل ما يمكن من الإصابات في صفوفهم.

 

بين مطرقة الصومام.. وسندان بورڤيبة

هذه الوحدات المنظمة والتي كانت تؤدي دورها بفعالية في إمداد الثورة الجزائرية بالسلاح والرجال – عبر منطقة الأوراس خاصة- ما لبثت أن تظافرت عليها عوامل داخلية وخارجية، تقتضي إبعادها بكيفية أو بأخرى عن مواطن انتشارها التي تشكل معبرا ضروريا تقريبا لمرور الأسلحة باتجاه الشرق الجزائري.

من العوامل الداخلية ارتباط الطالب العربي بالوفد الخارجي لجبهة التحرير من جهة، وبعباس لغرور الذي كان يتطلع إلى خلافة بن بولعيد من جهة ثانية.

* حرص حكومة الوزير الأول الحبيب بورڤيبة (1) – وقد استعادت تونس كامل استقلالها – على بسط نفوذها، وإحكام سلطتها على مختلف مناطق البلاد.. وتندرج في هذا الإطار رغبتها في التخلص بأسرع ما يمكن من بعض مناوئيها الذين كانوا على صلة وثيقة بالطالب العربي وكتائبه.

وتشير بعض الشهادات إلى أن متاعب هذا الأخير بدأت غداة اختطاف طائرة بن بلة ورفاقه في 22 أكتوبر 1956، في شكل مضايقات سواء من الحكومة التونسية أو من حلفائها الجدد: قيادة الثورة بالداخل المنبثقة عن مؤتمر الصومام، والممثلة بالدكتور الأمين الدباغين بمساعدة بن عودة ومزهودي ثم العقيد أوعمران لاحقا.

فكر الطّالب العربي في تجنب تلك المضايقات “بالانسحاب إلى الحدود الجزائرية” الليبية، لكن مهساس- الوفي لبن بلة من أعضاء الوفد الخارجي- أمره بالبقاء في مواقعه بالتراب التونسي.. في أواخر مارس 1957 تمكن الثنائي الدكتور الأمين – أوعمران من تحييد مهساس الذي هرب إلى الأمن التونسي – الذي قام بإبعاده إلى روما. تلا ذلك تعيين محمود الشريف – مسؤول منطقة تبسة- على رأس ولاية الأوراس – النمامشة، وتكيلفه بتسوية مشكلة الطالب العربي ولزهر شريط وغيرهما في أحسن الآجال.

قبل ذلك رفض الطالب العربي في اجتماع بالعاصمة التونسية طلبين:

– طلب الحكومة التونسية تسليمها الثوار التونسيين من أنصار صالح بن يوسف، الأمين العام السابق للحزب الدستوري الحر والغريم السيّاسي لبورڤيبة رئيس الحزب.

– طلب أوعمران أن يلتحق بقاعدة الجبهة في تونس العاصمة مع توزيع قواته بين الولايتين الأولى والثانية والصحّراء..

 

الانسحاب ..المرفوض

أمام هذا الانسداد ارتأى الطالب العربي أن يقدم استقالته، كي يضع مساعديه وجنوده أمام مسؤوليتهم.. لكن الأغلبية رفضت هذه الاستقالة وألحت على تجربة الاختيار السابق: الانسحاب إلى ناحية جانت على الحدود الجزائرية الليبية.

وفي تلك الأثناء اتصل محمود الشريف قائد الأوراس – النمامشة الجديد بواليي قفصه وسبيطلة المعنيين بانتشار وحدات الطالب العربي ليقترح عليهما أحد الخيارين:

1- تكفل جيش التحرير الوطني بتحييد هذه الوحدات

2- وضع وحدات من جيش التحرير تحت تصرف السلطات المحلية بالولايتين، على أن ترتدي الزي العسكري التونسي عند الضرورة. غير أن الواليين تحفظا على ذلك واقترحا خطة بديلة تضم العناصر التالية:

1- توقيف الطالب العربي ومساعديه بوسائلهم الخاصة،

2- قطع العلاقات مع الوحدات ووقف المؤونة عنها،

3- قيام جيش التحرير بمراقبة الحدود لمنع تسلل “المشوشين” إلى الجزائر أو ليبيا،

4- إشعار الواليين بالاستعداد لذلك وتقديم متطوعين لمساعدتهما في المهمة.

للتذكير أن قرار الطالب العربي وبعض مساعديه الانسحاب إلى ناحية جانت جاء بعد الاتصال بأعيان فيها، وعدوا بمساعدة وحداته أثناء تنقلها واستقبالها.. وعندما تقرر التحرك في هذا الاتجاه حدث انقسام في صفوف وحداته، بعد أن فضلت إحدى الكتائب تسليم أسلحتها إلى السلطات المحلية التونسية.

ومع ذلك تحركت الكتيبتان الباقيتان جنوبا باتجاه الحدود الليبية، لكنهما ما لبثتا أن اصطدمتا جنوب مطماطه بسلسلة من الكمائن، نصبتها وحدات مشتركة تونسية جزائرية، كمائن استنزفت جنودهما الذين كانوا يتحركون وسط الحصار وقطع المؤونة عنهم، وهكذا اضطرت الأغلبية إلى تسليم نفسها وكان ذلك في 13 (2) مايو 1957 حسب تقرير محمود الشريف إلى أوعمران الذي جاء فيه : “في منتصف هذا اليوم (13 مايو) سلم (السوافة) أنفسهم، وأعلنوا اعترافهم بسلطة لجنة التنسيق والتنفيذ”.. ويضيف صاحب التقرير أنه بعد استقالة الطالب العربي “أو مسؤولي الوحدات الجدد نقلها خارج الأراضي التونسية للاتصال بهم هناك. وسنوزعهم على الوحدات الأخرى إذا اقتضى الأمر”.

ويؤكد التقرير أن لزهر شريط ورجاله سلموا أنفسهم أيضا في نفس اليوم، ولم يبق من “المشوشين” – في التراب التونسي- غير عناصر مسعود عايسي والباهي شوشان..

وهكذا انتهت مأساة الطالب العربي ورجاله.. بعد أن أعدم يوم الجمعة 20 جوان 1957، رفقة عدد من مساعديه أمثال المكي بن علي ومبروك زغدود وعبد الله غرايري وغيرهم.

ويرقد الطالب العربي ڤمودي اليوم في مربع الشهداء بالعالية، بعد أن رد له الاعتبار في 5 يوليو 1985 بمناسبة الذكرى الـ 23 للاستقلال، أسوة بعباس لغرور والسعيد عبد الحي وعدد من مساعديهما.

(*) اعتمدنا في أعداد هذه الحلقة على ما نشر حول الشهيد في مجلة أول نوفمبر، وما جاء في كتابي الرائد عثمان السعدي ومحمد زروال، فضلا عن شهادات الأستاذ علي كرام ومسعود بن علي وبوبكر سالم..

(1) كانت تونس حينئذ ما تزال في عهد آخر البايات.

(2) 17 مايو حسب شهادة مسعود بن علي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!