-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تأسيس المقاربة بالكفاءات (4) 

خير الدين هني
  • 1831
  • 1
تأسيس المقاربة بالكفاءات (4) 

كان العالم في سبعينيات القرن الماضي، قد عرف ثورة كبرى في عالم الأفكار والتقنية الدقيقة وغزو الفضاء، وكانت تقنية النانو (التقنية التكنولوجية المجهرية أو الجزيئات متناهية الصغر)، قد أخذت في تصغير الجسيمات  عام 1974 . إذ قدم  البروفيسور (نوريو تانيقوشي)، ورقته العلمية المنشورة في مؤتمر الجمعية اليابانية للهندسة الدقيقة، ولم تكن الولايات المتحدة المتزعمة للعالم، قادرة على السماح لغيرها بهذا السبق في غزو الفضاء من غريمها الأيديولوجي، ولا من أي دولة أخرى أن تفوز عليها بأي سبق علمي أو تقني  أو تكنولوجي، لذلك أخذت – كما هي عادتها-  في إعادة النظر في نظامها التعليمي، وكانت مقاربة التعليم بالأهداف هي الذائعة الصيت والأكثر قبولا وانتشارا في العالم المتقدم يومئذ، ولكن دينامية التطور لحركة الزمن أخذت في تجاوز هذه المقاربة، لكونها مقاربة ترتكز في جوهرها على تجزئة السلوك وأجرأته، من غير عناية دقيقة بتنمية الكفاءة الذهنية ورفع مستوى الإدراك إلى تبصّر عمق المشكلات التي طرحتها الثورات التقنية والتكنولوجية الجديدة، وأن هذه البيداغوجيا لم تعد قادرة على تلبية الاحتياجات التقنية والاجتماعية التي ما فتئت تزدهر وتتطور يوما بعد يوم.

والنظم التعليمية في البلدان المزدهرة بالحيوية والنشاط والابتكار، لم تعد نظما مبنية على الفلسفات الخيالية التي كانت قبل الفلسفة البراغماتية، تمثل إطارا أنموذجيا من المثالية المستغرقة في تجسيد المركزية المنفصلة عن واقع الحياة الكسبية، وهي ليست إلا أفكارا تجريدية لا وجود لها خارج الصفاء الذهني والنقاء الروحي، مما يجعلها أكثر مثالية واستغراقا في الذات الشاعرة، من غير أن يكون لها أثر واقعي نفعي حسي، وحين برزت الفلسفة البراغماتية (النفعية) على يد المفكر الأمريكي الكبير (وليام جيمس)، ومفهوم التربية العملية التطبيقية على يد المربي الأمريكي ذائع الصيت (جون ديوي)، ارتبطت التربية بمفاهيم تطور الحركة الصناعية والنجاعة  الاقتصادية بمخرجاتها الإنتاجية والربحية، وما يحققانه من السعادة الاجتماعية والرفاه الاجتماعي.

ولذلك كانت الولايات المتحدة ومن ورائها العالم المتطور والناشئ، يربطون كل حركة وتطور، بستة أقطاب فاعلة ومتفاعلة، وهي: التطور العلمي والتكنولوجي والصناعي والاقتصادي والحاجات الاجتماعية  والتربية والتعليم، لأنها عناصر متلازمة في  كينونتها البنيوية، ولا تنفكّ عن بعضها البعض، ما جعلهم يعيدون النظر –دوما- في كل صلة تربط مخرجات التربية والتعليم، بمراكز البحث في الجامعات والهيئات البحثية العليا، وكبريات المصانع والمعامل والورشات الصناعية الإنتاجية، وبالحركة الاقتصادية المزدهرة بإنتاجها ومردوديتها ونجاعتها ومؤشراتها الربحية، فإذا  ازدهرت الحقول الصناعية والمقاولاتية من خلال التقنية المتطورة ومؤشرات النجاعة الاقتصادية وتزايد الاحتياجات الاجتماعية عن أهداف التربية ومخرجاتها، أعادوا النظر في تقويم البناء الفلسفي والتقني للمقاربات وتقنياتها ونظم تقويمها وقياسها، حتى تكون أهداف التربية متساوقة مع المعارف الثورية، وليس عائقا لها ومعرقلا لتطورها ونموها كما يحدث في البلدان التي تعشق الجمود والركود والتكلّس والتعلق بالأفكار الخيالية ذات النزعة التجريدية، أو التقليد والتبعية لكل مستورَد من غير أن تبذل جهدا ذاتيا في تطوير أفكارها ونظم حياتها، من طريق إسناد الأمر إلى النخبة المؤهّلة بتميّز بحوثها واجتهادها من أهل البحث الأكاديمي، حتى لا تبقى الساحة فارغة للمتسكعين العابثين من المشاغبين والفوضويين، ممن لا يعجبهم أي جديد ولو أتى به الأنبياءُ والرسل.

والمقاربة البنائية هي إنتاجٌ أمريكي محض، وقد انتقلت إلى الدول الأنجلو سكسونية، ثم إلى البلدان الفرنكوفونية كمنطقة كيبيك الكندية (لها حدودٌ مشتركة من الجنوب، مع الولايات المتحدة)، وبلجيكا وفرنسا ذاتها، وبلدان المغرب العربي حينما أخذوا هذه المقاربة من كندا وبلجيكا وفرنسا، ليس لأن هذه الدول هي من أنتجها، وإنما لأنهم من دول المحور الفرنكوفوني المستعملين الفرنسية في الإدارة و ترجمة العلوم والفنون والتقنية العالية من اللغة الإنجليزية إلى العربية والفرنسية، والفرنسية –هنا- تتساوى مع العربية في أن كليهما يترجم إليهما ما دقّ من العلوم والتقنية العالية من الإنجليزية.

وجون بياجي السويسري الأصل (1889/1980)، بيولوجيٌّ وفيلسوف وسيكولوجي كبير، وهو الذي تُنسب البنائية إليه، فرغم شهرته الواسعة بأنه عالم نفس كبير، اهتمّ منذ صغره بالبحث عن سبل تطور تفكير الطفل عبر مراحل عمره، فانشغل بتطور قدراته الذهنية، وهل تـنمو من طريق معادلة المثير والاستجابة التي يقول بها السلوكيون؟ أم إنها تـنمو من طريق التمشيات العقلية التي تحدث في الذهن نتيجة سلسة متعاقبة من التفاعل الاجتماعي الذي يقع بين الطفل وبيئته الاجتماعية؟ وتابع بحثه فيما له صلة بتطور أنماط التفكير عند الطفل، من الدوافع والإدراك والسلوك والقيم التي تغيّر تفكيره، وقد ألف كتابين (اللغة والفكر عند الطفل، الحكم والاستدلال عند الطفل)، شرح فيهما أفكاره حول طرق تفكير الطفل ودوافعه المحرّكة لنشاطه وحركته وتصرفاته. ثم انتهى إلى تأسيس نظرية المعرفة التكوينية.

والولايات المتحدة لكونها رائدة في استقطاب أهل الفكر والإبداع والموهبة، ومنحهم الجنسية وإسناد هم مناصب رفيعة في مؤسساتها البحثية، أو بمنحهم دكتوراه فخرية كما فعلت مع بياجي لاستغلال مواهبهم في تطوير علومها وبحوثها وحركة الصناعة والاقتصاد في بلادها، وقد كانت أفكار بياجي وغيره من علماء الدنيا تطرق أبواب جامعاتها وتجد رجعا قويا عند مفكريها وعلمائها من أمثال شومسكي، لذلك كانت السباقة في تطوير النظريات التربوية وتجعلها في مقاربات بيداغوجية ثورية قبل غيرها، ثم تطرحها في الميدان للتنفيذ ثم يأخذها العالم عنها طريّة ليّنة ناضجة.

والمقاربة البنائية تختلف عن المقاربة بالأهداف، في كونها تركز على تنمية الكفاءات التي تعني في مفهومها الاصطلاحي، كما عرفها (روجيرس  X.Rogers)،”الكفاءة هي إمكانية الشخص تجنيد بطريقة متداخلة، لمجموعة من الموارد المدمجة من أجل حل عائلة من الوضعيات مشكلات”. والمراد من التعريف هو:  تجنيد (استدعاء) المكتسبات القبلية المدمجة مع بعضها، من معارف وخبرات وتجارب وتقنيات ومهارات وأشكال وجداول وبيانات وعوائق سابقة ونظم لحلّ وضعية ما (مشكلة)، واجهت الفرد في حياته، يجنّدها بمهارة وحذق وإتقان عالي الجودة في الأداء، من غير تعثر ولا تردد أو اضطراب أو فشل، خلافا لمقاربة الأهداف التي كانت تركز على تفتيت الأهداف وأجرأتها لمراقبة الأداء من خلال السلوك الإجرائي، وليس بواسطة الكفاءة النفعية عمليا، فالأهداف ذات صبغة معرفية والكفاءة ذات أثر وظيفي نفعي.

المراد من التعريف هو:  تجنيد (استدعاء) المكتسبات القبلية المدمجة مع بعضها، من معارف وخبرات وتجارب وتقنيات ومهارات وأشكال وجداول وبيانات وعوائق سابقة ونظم لحلّ وضعية ما (مشكلة)،  واجهت الفرد في حياته، يجنّدها بمهارة وحذق وإتقان عالي الجودة في الأداء، من غير تعثر ولا تردد أو اضطراب أو فشل، خلافا لمقاربة الأهداف التي كانت تركز على تفتيت الأهداف وأجرأتها لمراقبة الأداء من خلال السلوك الإجرائي، وليس بواسطة الكفاءة النفعية عمليا.

والجزائر كما سائر بلدان المغرب العربي اعتمدت المقاربة البنائية في بداية القرن الحالي، لأن العالم المتقدم اعتمدها في تسعينيات القرن الماضي، ودخلت عملية تنفيذ الإصلاح عندنا في 2003، وكانت وزارة التربية من طريق مديرية التعليم الأساسي قد قدّمت مبرر الإصلاح التربوي في اعتبار أن: “انتقال البلاد من نظام سياسي أحادي إلى التعددية الحزبية وإلى نظام ديمقراطي.

– انتقال البلاد من نظام اقتصادي ممركز إلى نظام الاقتصاد الحر.

– التطور المذهل للعلوم والتكنولوجيا بما في ذلك علوم التربية.

– التدهور المستمر لمستوى التلاميذ ونتائجهم.

– التحديات الجديدة التي من المنتظر أن تواجهها المدرسة” (مديرية التعليم بوزارة التربية، 2002).

وحددت ثلاثة مستويات للكفاءة، وهي: الكفاءة القاعدية تحققها الوحدات الدراسية المشكلة للمحاور الكبرى، والكفاءة المرحلية، تحققها المحاور الدراسية ضمن الفصل الدراسي، والكفاءة الختامية تتحقق في نهاية الموسم الدراسي من الكفاءات القاعدية والمرحلية، ومن الكفاءات القاعدية والمرحلية والختامية تتكون الكفاءة العرضية من طرق حصص الإدماج بين الأنشطة الدراسية والمشاريع الدراسية، وتنمية الكفاءات يتم باستمرار عبر  الوحدات والمحاور والفصول والسنوات الدراسية، والتقويم يشمل قياس فعالية أداء الكفاءات ونجاعتها، وليس قياس حفظ المعارف النظرية واسترجاعها أو السلوك الإجرائي، لأن المعرفة النظرية تحولت من كونها أهدافا وغايات إلى وصفها موارد تجنّد مع غيرها من المكتسبات لحل وضعية معقدة بمعطياتها أو ألغازها.

وهذه الكفاءات في مجملها تسعى إلى تحقيق أربع كفاءات أساسية ذات طابع شمولي، وهي؛ كفاءات تحقق البُعد الفكري والبعد المنهجي والبعد الاتصالي والبعد الاجتماعي والفردي، (وزارة التربية الوطنية، ديسمبر 2003). هذا باختصار شديد ومقتضب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • جزائري حر

    يجب أن تتوقفوا عن الهدرة بزاف وعريو على زنودكم