-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تدريس الرياضيات ليس بخير.. هنا وهناك!

تدريس الرياضيات ليس بخير.. هنا وهناك!

كنا في شهر ديسمبر الماضي قد أشرنا إلى تقييمين عالميين لتدريس الرياضيات في بلدان عديدة، منها الجزائر وفرنسا. ولا يمكن ألا نربط الجزائر بفرنسا في هذا الميدان بالذات، وفي ميادين أخرى كثيرة، لأنه كلما خَطَت السلطات الفرنسية خطوة في إصلاح منظومتها التربوية كلما قلدتها الجزائر وقامت بخطوة مماثلة. بمعنى أن خطوة الأمس لفرنسا هي خطوة اليوم في الجزائر، وخطوة اليوم في فرنسا هي خطوة الغد في الجزائر.

كم نتمنى أن يكون لوزارتنا فريق مستقل في تفكيره

الأمر المثير أن في فرنسا مؤسسات قائمة وجمعيات عريقة متعدّدة المشارب تُعْنى بالشأن التربوي ولا تترك فرصة تمر دون التعبير عن رأيها في سيرورة الإصلاحات عندهم. وبطبيعة الحال فبعض مقترحات تلك الجمعيات والآراء الحرة يؤخذ بها ولا يُعْتدُّ بالبعض الآخر. وهذا أمرٌ طبيعي حيث تبقى كلمة الفصل دائما في يد صاحب السلطة. وما أكثر المندّدين في فرنسا بأسس إصلاحاتهم في المجال العلمي، وبصفة خاصة في الرياضيات. أما مشكلتنا نحن فلا صوت يعلو فوق صوت سياسيي وزارة التربية. أما خبراؤها فيأتوها من الفرنسيين المرتبطين بإصلاحات بلادهم وليس بصوت الناقدين هناك. وقد يستنتج بعضنا أننا نُعتَبر بالنسبة لهؤلاء الخبراء جزءًا من حقل تجاربهم.

نذكر، على سبيل المثال، أن في إصلاحات بداية القرن عندنا التي أشرف عليها الفرنسيون بالكامل، كان هؤلاء قد حذفوا من المناهج (عندنا وعندهم) دروس المنطق الرياضي. وكان الكثير عندهم والبعض عندنا قد ندّدوا بهذا الإجراء.. لكننا طبقنا ما طبقت فرنسا في مدرستها وكانوا يقولون لنا آنذاك إنه من الحكمة التربوية أن “نترك دراسة المنطق للتلاميذ الذين سيتخصصون في الرياضيات، ولا نُلزم بها غيرهم»  !    

وبعدما طُبقت الإصلاحات في الميدان، انكشفت عيوب التلاميذ في الرياضيات وفيما يتصل بها من مواد. وتفطن القوم في فرنسا إلى خطئِهم فراحوا يعدِّلون البرامج منذ بضع سنوات وأدخلوا عليها بصفة خاصة “مسحة” من المنطق وتعديلات أخرى. وها نحن سِرْنا في مناهجنا الجديدة اليوم على نفس المنوال تقليدا وليس إدراكا حرا للمخاطر العلمية والتربوية  !   

نحن لا ننكر أن قضية تدريس الرياضيات اليوم صارت من أعوص المسائل المطروحة في المدرسة نظرا لعوامل كثيرة، وهذا هو واقع كل بلدان العالم، إلا أن كل هذه البلدان تسعى إلى تحسين الوضع في مدارسها بناء على دراسات ميدانية وعلى تجاربها الخاصة وأعينها مفتوحة على تجارب الغير.

كم نتمنى أن يكون لوزارتنا فريقٌ جاد مستقلّ في تفكيره يَنْهَل من جميع التجارب ويستخلص الأجْوَد… بمعنى ألا يكون هذا الفريق لصيقا بتجربة بعينها دون الانكباب على غيرها. وفي هذا السياق، فوجئنا منذ شهور في أحد المؤتمرات بما قدّمه زملاء من الأردن ومصر في باب تعليمية العلوم الطبيعية والعلوم التجريبية، وهو ما لم يقدِّمه آنذاك مشاركون من بريطانيا وفرنسا. نتصوّر أن عجز طاقم وزارة التربية في اللغات الأجنبية، وبصفة خاصة الانكليزية، يحول دون اطِّلاع أعضائه على تجارب بلدان أخرى كثيرة. وإن كان ذاك صحيحا فكيف بنا ننادي بالانفتاح ونحن منغلقون إلى هذه الدرجة؟

خيبة أمل الأساتذة

في أواخر فبراير من هذا العام أصدر فريقٌ من جامعة ليموج الفرنسية نتائج دراسة حول تدريس الرياضيات في الثانوي وتأثيرات الإصلاحات الأخيرة في فرنسا التي أدخِلت عام 2011، فاتضح أن هناك «استياءً كبيرا» لدى الأساتذة «أمام الوضعية الصعبة» و«الفجوات  الكثيرة» و”العيوب الخطيرة» لدى التلميذ لاسيما في الحساب الجبري (الحرفي). والواقع، حسب هذه الدراسة، أن هذه العيوب ليست جديدة، وإنما تعمّقت أكثر بعد التعديلات التي أدخلتها الإصلاحات. فقد صار التلاميذ لا يستطيعون «مواصلة الحسابات إذا ما تجاوز حجمُها سطرين».. إذ سرعان ما يرمي التلميذ المنشفة ويخيّب أمله في الاسترسال الحسابي لأنه يريد، حسب أساتذة الثانوي، الوصول بسرعة إلى النتيجة. كما لوحظ أن التلاميذ عاجزون عن التعامل مع الاستدلال المنطقي.

من جهة أخرى، جاءت في الدراسة أن الأساتذة يتحاشون استخدام الكسور التي تشمل أحرفا (بدل الأعداد). وهم يؤكدون أن التلميذ في الثانوي لا يفرّق بين القيمة الدقيقة والقيمة التقريبية للكميات. ويكثرون من استعمال الحاسبة حتى أنهم يستعملونها لحساب جذر 1.

أما في الهندسة، فالأساتذة يتأسفون من كون تقليص حجمها أدى بالتلاميذ إلى عدم التمييز بين البرهان والتخمين، وبينه وبين الأمثلة الخاصة. ويبحث الأساتذة عن ضالتهم المترتبة عن تقليص حجم الهندسة لأنهم يعتبرونها مساعِدة للتلاميذ على التفكير السليم وترتيب الأفكار، ذلك أن المعلم دأب على استعمالها كأداة تعلم في الرياضيات. المشكل القائم أن لا شيء عوَّض اليوم هذه الأداة الفعالة.

أما نحن فأهملنا العناية بالجمهور الواسع من التلاميذ، وبالموازاة مع ذلك فتحنا ثانوية الرياضيات بالقبة لاستقطاب النخبة و”وقف حمار الشيخ في العقبة”: توقفنا عندها ولم نواصل التكفل بتلك النخبة! يتخرج التلميذ منها فلا يجد ما يميزه عن الآخرين من الطلاب في الجامعة.

وفيما يخص الاحتمالات فيرون أن مواضيع البكالوريا فيها منمّطة، وتدفع التلميذ إلى الاكتفاء بحفظ قوانينها لا غير. كما ينبّه الأساتذة إلى أن جانب الرسم البياني لم يساعد التلاميذ كثيرا في موضوع الدوال. ولاحظوا أن الإعلام الآلي جعل التلميذ يتجنب التفكير ويبتعد عن كل ما هو صعب.

كما تعرضت الدراسة إلى جانب التعبير اللغوي فأظهرت الهوَّة التي تتزايد بين خطاب الأستاذ وخطاب التلميذ رغم أن التلاميذ صاروا يتناولون الكلمة من دون تردّد كبير خلال النقاش. غير أن المشكل يكمن لدى التلميذ في التعبير الشفوي الدقيق عن أفكاره؛ وكذا في تعبيره الكتابي. وأشار الأساتذة إلى أن التلاميذ المتميزين لغويا يبالغون عموما في الحشو مبتعدين عن الأسلوب الرياضي ودقته. واتضح جليا لدى أصحاب الدراسة أن النقطة الوحيدة الإيجابية في البرامج الجديدة هي الخوارزميات، أي إلمام التلميذ باستعمال ما له علاقة بالآلة الحاسبة.

ويلاحظ التقرير أن تعديل البرنامج يسعى إلى تدعيم دور المنطق والاستدلال الرياضي إلا أنهم لم يلمسوا ذلك في جوهر المنهاج. ويعترف جل الأساتذة المستجوَبين بأنهم صاروا عاجزين أمام فداحة الأخطاء الحسابية التي يرتكبها تلاميذ الثانوي، وهم يستثنون قلة قليلة من هؤلاء.

في الأخير عبَّر أساتذة الثانوي عن عدم رضاهم عن إصلاحات 2011. ويطرح أصحاب الدراسة  جملة من الأسئلة، منها: هل لا زال ممكنا أن يطمح الأستاذ في جعل مستوى التلميذ يتحسَّن تدريجيا؟ كيف يمكن مواصلة تدريس الرياضيات بهذه البرامج والأدوات الدراسية؟ ما هو التكوين المستمر الذي ينبغي أن يوضع لفائدة الأساتذة؟ ما هي نظرة الطالب اليوم حول الرياضيات إثر حصوله على البكالوريا؟

وحسب المنطق المتبع بين مناهجنا والمناهج الفرنسية فنحن نتوقع أننا سنقرأ في تقارير وزارتنا تحليلا من هذا القبيل.. لكن بعد بضع سنوات!

كيف يحدث هذا في فرنسا؟

قد يقول قائل: كيف يحدث هذا في فرنسا ومدرستها تحتل مرتبة مرموقة في البحث الرياضياتي وفي علوم أخرى؟ كنا أوضحنا هذا الجانب، وهو أنه لا بدّ من التفريق بين المدرسة الفرنسية التي يقصدها الجمهور الواسع والمدرسة التي تستقطب النخبة. وفرنسا عرفت كيف تحافظ على نخبتها من خلال المدارس الكبرى الموازية للجامعات، وهي المدارس التي يقصدها أفضل التلاميذ في كل الاختصاصات.

أما نحن فأهملنا العناية بالجمهور الواسع من التلاميذ، وبالموازاة مع ذلك فتحنا ثانوية الرياضيات بالقبة لاستقطاب النخبة و”وقف حمار الشيخ في العقبة”: توقفنا عندها ولم نواصل التكفل بتلك النخبة! يتخرج التلميذ منها فلا يجد ما يميزه عن الآخرين من الطلاب في الجامعة.

والأدهى من ذلك أن ما يحدث الآن هو أن عددا معتبرا من هذه النخبة في الثانوية تفضل العودة من حيث أتت لأن ليس هناك ما يشدها إلى هذه الثانوية أو يجذبها إليها. وهذا في حد ذاته يعد كسرًا لطموح المواهب وذنبًا لا يغتفر من سلطات البلاد في حق المتفوقين من جيل الشباب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • أ .م.طاهري

    ان حذف درس المنطق كانت له نتائج وخيمة اذ لا نتصور وجود رياضيات بدون منطق( القضايا والروابط والاستدلا ل) كما لا نتصور وجود علم بدون منطق ( القواعد العقلية) . فالمنطق هو لغة الرياضيات وفيه تكمن دقتها ومن هنا نؤكد الشئ الذي يتحدث عنه استاذنا المحترم وهو مشكور على ذالك فالاجيال تذهب ضحية العجز والله المستعان.