الرأي

تركيا ابتداء من 2018

التهامي مجوري
  • 1417
  • 5

لا أدري من المسكين أهي الشعوب الإسلامية التي عجزت عن تقييم التجربة التركية تقييما موضوعيا؟ حيث لم ير فيها البعض أكثر من هيمنة أمريكية على المنطقة في ظل رجل طموح، بينما يرى آخرون أنها عودة لنهضة إسلامية ستتمدد في ربوع العالم الإسلامي. أم المسكين هو رجب طيب أردوغان وحزبه اللذان لا ينظر إليهما إلا كمغامرين ومقامرين بالمجتمع التركي، بسبب ما أحدثه من كسر للثوابت السياسية والإجتماعية والثقافية؟
ومهما تكن الإجابة عن هذين السؤالين، فإن تركيا ابتداء من انتخابات 24 يونيو 2018 تدخل مرحلة جديدة، وهي الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، الذي كان ولا يزال وبالا على المجتمعات المتخلفة، التي لا يحكمها قانون ولا تضبطها أخلاق؛ بل ولا مقدس في عرفها الإجتماعي والسياسي ولا في ثقافتها الرائجة…، أما بالنسبة للمجتمعات غير العربية وغير الإسلامية، فالأمر سيان عندهم، النظام الجمهوري كالملكي، والرئاسي كالبرلماني وشبه الرئاسي؛ لأن الحكم بينهم هو القانون والثقافة السياسية وليس زيد أو عمرو..
فهل الشعب التركي على قدر من الغباء حتى ينتخب على رئيس يسعى إلى الاستبداد به واسعباده فيعطيه 53 بالمائة من أصواته؟
وهل رجب طيب أردوغان بهذا المستوى من القبح والنذالة فيسعى إلى الحكم الرئاسي ليخلد على الكرسي فقط.. كما يفعل كل من سعى لتثبيت النظام الرئاسي في عالمنا المغبون؟
ولماذا عجزت الطبقة السياسية المنافسة لهذا الحزب في تركيا عن إسقاطه؟ فتسلق المناصب طيلة هذه السنوات التي قاربت العقدين من الزمان، فوصل إلى “جميعها”، رئاسة، وحكومة، وأغلبية البرلمانية، وغير ذلك… من المواقع والمناصب الفاعلة في المجتمع والدولة؟
لا شك أن هذه الأسئلة لا يمكن أن يجيب عنها احد من خارج المجتمع التركي..؛ لأن كل نجاحات هذا الحزب حققها بفضل المشاريع الاستثمارية الناجحة والصندوق الشفاف، بما في ذلك الصدقية الشعبية.
وقد أجابت شريحة من المجتمع التركي بالسلب في المحاولة الانقلابية الفاشلة في السنة الماضية، التي اتهمت فيها جماعة الخدمة، أما فيما عدا ذلك فإن الهوى العام في صالح هذا الحزب، بقيادة هذا الرجل الذي وصل إلى دستور يمكنه من مبدإ الحكم الرئاسي، الذي لم تعرفه تركيا من قبل…، والمشككون في نوايا أردوغان يتهمونه بالاستبداد وسعيه للحكم الرئاسي من أجل هذا الغرض.
لننظر في هذا النظام الرئاسي الذي كرسه الدستور الجديد، بعرض بعض بنوده…، التي يسعى أردوغان من خلالها إلى تثبيت هيمنته وهيمنة حزبه !!
1. يرى الدستور الجديد تقليص سن الترشح إلى البرلمان من 25 سنة إلى 18 سنة، وهذا يفتح المجال للطاقات الشبابية
2. الترشح للرئاسة يفرض الحصول على شهادة جامعية، وذلك لاستبعاد المستويات المتواضعة
3. إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في نفس الوقت كل خمس سنوات.
4. إلغاء المحاكم العسكرية واستبدالها بالمحاكم التأديبية، ولا تُنشأ المحاكم العسكرية إلا في حالات الحروب، ولا تفرض حالة الطوارئ إلا في الانتفاضة ضد الوطن وتعرُّض الأمة لخطر الانقسام.
5. وإذا اتهم الرئيس أو حامت حوله شبهات بارتكاب جريمة، على البرلمان أن يجري تحقيقا، وفي حال صحة التهمة، يحق لديوان مجلس البرلمان إنهاء مهام الرئيس المنتخب.
هذه بعض الأمور التي جاء بها الدستور التركي الجديد الذي سيمارس أردوغان مهامه في ظلاله، وقد تضمن هذا الدستور أيضا صلاحيات كبيرة للرئيس كان محروما منها من قبل، مثل إجباره على قطع العلاقة العضوية بالحزب الذي ينتمي إليه، فقد أقر الدستور الجديد الإبقاء على العضوية..، كما أقر الاستغناء عن رئاسة الوزراء.
ولكن الأهم في التجربة التركية أن هذا الحزب دخل المعترك السياسي ببرنامج وتأقلم مع كل وضع وحقق مكاسب كثيرة في ظل صراعات كبيرة، وإذا استطاع تجاوز معوقات الخصوم السياسيين والعسكريين، فإنه بلا شك سيكون أكثر توفيقا في ظل نظام هو الذي وضعه وفق تصوره لعمليات الإصلاح والتغيير.
حزب بهذا المستوى والقوة والقدرة، يوحي بأنه قادر على تجاوز المحن مهما كانت، ولكن الحقيقة المرة أن هذا الحزب رغم قوته وفاعليته، لا يزال مهددا ببعض الأمور، ومنها علاقة الدولة التركية بإسرائيل، وهي علاقة ليست من صنع، وإنما هو من يتجرع مرارتها ولو أنها من مورثات سابقيه، وكذلك عضويته في ذلك التكتل الاستعماري “الحلف الأطلسي” وهي عضوية ليست من صنعه أيضا، ولكن مجرد وجوده فيه يحمله مسؤولية كل فعل يصدر عن هذه الجهة.
ولكن المأمول في عبقرية قيادات هذا الحزب، أنها تحسن استثمار هذه العلاقات، مع هاتين الجهتين اللتين تعتبران من أكثر الجهات عدائية للإسلام والمسلمين…، وقد استطاع أردوغان التخفيف من التأثير السلبي في هذا الجانب، من خلال الأزمات التي يحدثها أردوغان من حين لآخر، وقد كانت أكثر إيلاما لليهود، وأكثر انشراحا لصدور المسلمين، في مثل الموقف الذي اتخذه في دوفوس أمام بيريز، وعندما وصف إسرائيل بقتلة الأطفال، وقام وغادر الجلسة، وكذلك مواقفه مما وقع في غزة في أكثر من مناسبة.
والأمر الثاني غير مأمون الجانب أيضا، وهو أقل خطورة على كل حال من العلاقة مع تينك الجهتين، وهو جماعة الخدمة –أتباع فتح الله غولن- رغم أنه متهمون بتدبير المحاولة الإنقلابية السنة الماضية.
وخطورة هذه الجماعة أنها مارست وتمارس على السلطة، التي هي بيد حزب العدالة والتنمية، ضغوطا كبيرة، بالتجسس عليها وعلى رجالها بواسطة الأمن والقضاة والوكلاء… وكذلك بالتحكم في ساحات كبيرة من الدول المجاورة من الجمهوريات الإسلامية في أوروبا الشرقية وبعض المناطق التابعة ثقافيا لتركيا، حيث استثمرت هذه الجماعة فيها ولها من السيطرة عليها ما ليس للدولة التركية بفعل المال والمؤسسات الإقتصادية والتعليمية.
ورغم أن هذه الجماعة كانت متحالفة مع الحزب في البداية.. ولكن المصالح يبدو أنها تضاربت، فوقع ما وقع، وظاهر هذه الخلافات، تَغَوُّل جماعة الخدمة باختراقهم قطاعي الأمن والقضاء، وانتشار المدارس والمؤسسات الإعلامية، التي تمردت على القانون حسب تصريحات رجال العدالة والتنمية، والوجع كان أكبر عندما تم تحالف جماعة الخدمة مع تيارات من الخصوم الطبيعيين للإسلام، وهم ضد حزب إسلامي بطبيعة الحال…، انفضحت بعد ذلك بالمحاولة الإنقلابية التي اتهمت بها هذه الجماعة.
والأمر الثالث الذي يضعف من أهمية هذه التجربة في العالم الإسلامي، هو تشكيك بعض المسلمين في صدق التجربة ونجاحها، كما أسلفنا في مطلع هذا المقال، حيث أن البعض يرى أنها تجربة أمريكية في إطار ترويض المجتمع الإسلامي، لإجهاض التجارب الإسلامية الصادقة، وآخرون يعتبرون أن هذه التجربة هي تركية محضة لا تنعكس بالإيجاب على العرب والمسلمين؛ بل يرى بعضهم أنها استدعاء للصراع القومي العربي التركي الذي كان بين القوميين العرب والأتراك في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، ويستدلون على هذا التحليل بتصريحات أردوغان المشبعة بالفخر والاعتزاز بأسلافه الذين قادوا العالم كإمبراطورية فاعلة، والمبشرة بعودة السلطان العثماني…

مقالات ذات صلة