تعريب مصر .. أم ” تمصير ” العرب؟ !
في سنوات المد القومي العربي، وحين كان بيننا من يحملون بقيّة من أولي العزم، تحمّلت مصر مسؤوليتها التاريخية والحضارية، وساهمت في تعليم وتثقيف معظم المجتمعات العربية الأخرى
-
وليس صحيحا ذلك التعميم الذي يقدّمه بعض العرب من القول: إنها كانت تسعى لتمصير العرب أو إيجاد وظائف لشعبها، أو ما كان يسميه أحد أبطال روايتي “بدهّ عيشوش” بالاستعمار المصري، ليس هذا فقط بل إنها كانت تدفع أجور المعلمين والأساتذة الذين كانوا يقومون بواجب حضاري، يذكروننا بالأوائل في أزمنة الجهاد، في دول عربية هي اليوم طغت بعد إن استغنت.
-
الموقف المصري ظل إلى أن اختلفنا حول السلام مع العدو الإسرائيلي. حيث قادته مصر منفردة، كانت فيه مثل الرّجل الشريف الذي تزّوّج بـ “خضراء الدّمم” دون حضور أهله، وبعدها اتخذت مصر طريقها فيه غرقا، وحذا حذوها العرب في وقت لاحق حتى غدا السلام خيارا استراتيجيا اليوم، المدهش أنه حين رفض العرب الاجتماع حولها في ذلك الخيار أخذتها العزة بالإثم فغرقت في محليّتها، وحين عادوا إليها اعتقدت واهمة أنها سلكت طريق الحق والصواب، وقد تكون محقة إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية الحرب القادمة بين مصر وإسرائيل وإن تأخرت لأسباب كثيرة، لجهة اشغال العدو في حروبه الداخلية، أو مع بعض من جيرانه .
-
وحين ضاقت على مصر أرضها بما رحبت هاجرها أهلها، وظنّ سياسيوها أنهم قادرون عليها، كما ظنّ أيضا أقزام العرب الذين أغوتهم قوى الشّر أنهم سيكونون منافسين لها، لدرجة أنه تم التشكيك في كل ما هو مصري حتى لو كان تجويد عبد الباسط أو ترتيل الحصري، بل أن الجهاد المصري في مجال التعليم اعتبر فشلا في بعض الدول، تولّد منه الإرهاب، ثم أتت علينا سنوات ـ كرد فعل ـ لجأت فيه جماعات فاعلة داخليا إلى مزيد من التمصير على حساب التعريب، وقد مثل ذلك رغبة لدى بعض من صنّاع القرار، ثم تحوّلت مع الوقت إلى قناعة لدى قطاع عريض من الشعب، وقد كانت هذه المسألة موضوع نقاش بيني وبين كثير من عناصر النخبة في مصر إبان إقامتي هناك .
-
القول بتمصير المجتمعات العربية، كان بسبب لغة الأعمال الفنية ـ مسرحيات، أفلام ، مسلسلات، الموجّهة بالأساس إلى المشاهد المصري، حيث طغت على غالبتها اللهجة المصرية، ولكن بالرغم من حقيقتها الظاهرة، إلا أنها تحتاج إلى قراءة خاصة، منها: أنه على طول عقود من الزمن في بعض الدول العربية تجاوزت الأربعة عقود كان المسؤولون في التلفزيونات العربية يشترون الأعمال المصرية دون اعتراض على لهجتها المصرية .
-
على العموم فإنه مهما يكون النقد الموجّه لتلك الأعمال فقد عبرت عنّا جميعا من المنظور العربي، لأن المجتمع المصري جزءا من المجتمعات العربية، إضافة إلى هذا فإن الدول العربية مجتمعة لم تنتج لنا ما أنتجته مصر منفردة من أفلام ومسلسلات تاريخية ودينية بالفصحى، قبل أن تتراجع عن دورها على جميع المستويات، ومع ذلك لنتساءل من الناحية التاريخية من مثلَّ الثورات العربية الكبرى، مثل الثورة الجزائرية؟ .. أليست مصر؟ !.
-
لا شك أن هناك نقصا ملحوظا في الأعمال المصرية على مستوى النصوص وعلى مستوى الأداء، لأن مصر تنتج والعرب الآخرون يستهلكون، وحين حاول بعضهم أن ينتج مثل سوريا مثلا أظهر نجوما كبارا ولكن أرجعنا إلى ما قبل إنتاج الدراما، خاصة في الأعمال التاريخية، فبدا الأمر وكأنه صراع بين المدرسة المصرية وبين غيرها من المدارس الأخرى التي تدين لها بالتقليد، فيما يمكن أن نطلق عليه العزة بالإثم، حتى أن تبرّج الجاهلية الأولى في الأعمال الفنية المصريّة هو نفس االتّبرّج الذي نراه في كثير من الأعمال العربية الأخرى التي تدّعي المنافسة.
-
مصر اليوم تعود بعد مراجعة للنفس تحوّلت عند البعض إلى محاسبة ـ لا تزال فيها في بدايتها، كما لا يزال بعض من أغرتهم الوطنية الضيقة، المدفوعة الثمن رافضين لها لأنها تكشف عن عوراتهم في مجالي الثقافة والإعلام ـ تعود إلى محيطها العربي، حيث يرجّح أن تقود العرب على المستوى الثقافي في أجل أقصاه عشر سنوات.. وكل من هو محب لأمته سيفرح بذلك، لأننا نحتاج إلى كبير ولن يقوم بهذا الدور إلا مصر، لأنه إذا ذلت مصر ذل العرب أيضا والدليل قائم اليوم، لكن ما هو الدليل على أن مصر تحاسب نفسها؟
-
قبل أن نقدم إجابة للسؤال السابق، أشرك القارئ في ذكريات ليلية قاهرية سنة 1998 قضيتها في الحديقة الدولية ـ في مدينة نصر ـ مع الصديق العزيز الطبيب والإعلامي والروائي الأردني الدكتور”عماد زكي” وكان آنذاك يعمل مع تلفزيون ورديو العرب في روما، ثم أصبح له برنامج خاص يعده ويقدمه في احدى قنواتها وهي قناة اقرأ، حمل عنوان “حديث الساعة”، فقد سألته: من الدولة العربية المؤهلة لقيادة الإعلام العربي مستقبلا مع ظهور قنوات إعلامية مستقلة وتعدد المناطق الإعلامية الحرة؟ أجابني: المؤهلة لذلك هي مصر.. علما بأن مدينة الانتاج الإعلامي كانت لا تزال في بداية نشأتها في ذلك الوقت .
-
يمكن التأسيس على إجابة الدكتور عماد زكي اليوم، لتقديم إجابة واضحة، حيث يمكن لنا أن نرصد تطورا غير مسبوق في الإعلام المرئي، وبالذات في القنوات الخاصة يتعلق بإشراك العرب في صناعة الثقافة والإعلام داخل مصر عجز القيام به الإعلام المكتوب لعقود خلت، وفي الحالات القليلة التي أشرك فيه كتّاب عرب تم ذلك على استحياء، وقد أدعي أنني من القلائل الذين أتيحت لهم مساحة في الإعلام المكتوب بما فيه القومي خلال سنوات إقامتي هناك .
-
هناك من أرجع ذلك إلى الفتنة الإعلامية بين مصر والجزائر خلال الشهور الماضية، وإذا ثبت هذا فربّ ضارة نافعة، وبالنسبة لي فإني أرجعه إلى شعور لدى بعض عناصر النخبة المصرية بضرورة الانفتاح ولأسباب تتعلق بالتجارة، وهناك من المصريين أنفسهم من يشاطرني الرأي، فقد سبق للفنان ” خالد الصاوي ” مثلا أن نشر مقالا في مجلة ” دبي الثقافة ” تحدث فيه عن مشاركة الفنانين السوريين، ونفى أن يعود ذلك إلى شعور عروبي قومي، وإنما لمنافع مشتركة بين الطرفين .
-
مثل هذا القول مخيف، غير أنه يمثل جانبا من الحقيقة، والأهم في الموضوع أن الشهرة وهي تمثل هنا شرعية الاعتراف لمعظم الفنانين والمثقفين العرب تأتي في الغالب من مصر، وهي اليوم تأخذ طابعا جديدا إذا نظرنا بعمق للأفكار العربية التي دخلت مصر هذه السنة ولقيت رواجا على المستويين الفكري والديني، بل إننا رأينا مقدمي ومعدي لبرامج في القنوات المصرية من جنسيات عربية مختلفة، أثرت الساحة المصرية، وبالتـأكيد أحسست بدفء العلاقة في مصر، وهي شاهدة على مرحلة جديدة من التاريخ العربي حيث تعريب مصر، وليس تمصير العرب كما روّج كثير من العرب، ممّن ساهموا مع غلاة المصريين في تراجع أمتنا، ليدرك هؤلاء وأولئك أن فضاء الثقافة يسعنا جميعا على عكس ضيق السياسة وصدور أهلها . الفضائيات شوكة في خاصرة الديكتاتوريات !