الرأي

تعزيز سيادة العربية.. كيف؟

حسن خليفة
  • 734
  • 7
ح.م

لا ريب أن من موجبات مسايرة المطالب الشعبية المنادى بها في الشارع، والمعبَّر عنها في الكتابات في مختلف الفضاءات النشيطة، والتي لا تعود إلى الفترة الأخيرة فحسبُ، أي فترة الحراك الشعبي.. وإنما تمّ التعبير عنها منذ مدة طويلة.. من تلك الموجبات: نُصرة اللغة العربية، والذي أتصوّر أنه واجب من أوكد وأهمّ الواجبات الدينية الوطنية والثقافية والأخلاقية، بل هو من واجبات الوقت أيضا، في ضوء “الحرب” البشعة المعلنة على العربية، قصدا من الأعداء والخصوم، أو استسهالا من بنيها وبناتها، وضعف إدراك لما يُحاك ويدبَّر من أجل تجفيف منابع الدين في أوطان المسلمين والعرب، وخارج أوطانهم، في المهاجر؛ حيث يتمدد اليمين المتطرّف في أوروبا وغيرها ويعلن صراحة عداءه للمهاجرين واللاجئين وخاصة منهم المسلمين والعرب، في دينهم وثقافتهم ولغتهم.

قلتُ عطفا على محمول المقال الموجِب لأهمية نُصرة العربية وتعزيز استعمالها وتحسين تداولها وتوسيع دائرة استخدامها في كل ميادين الحياة والنشاط والعلم.. أرى أن البرامج والخطط العملية هي الأنسب في الطرح والاقتراح، وبسط الخطط الواقعية الممكنة التطبيق، تأسيسا على الموارد البشرية والإمكانات المتوفرة التي يمكن تسخيرُها لخدمة العربية.. سيكون ذلك مفيدا ونافعا، أفضل من الإغراق في الطروحات النظرية والتصورات الذهنية والانخراط في البكاء على الأطلال والبقاء في دائرة التاريخ مدحا وتمجيدا.

أوّلا: مما يجب التأكيد عليه أن أهمّ عمل في نظام تعزيز العربية وحمايتها واستخدامها على نحو واسع مكين، هو القرار السياسي الصريح والإرادة السياسية السيادية بخصوص تنزيل وجرأة تطبيق كل ما يتعلق باستخدام العربية على أرض الواقع، ليس فقط بتفعيل القوانين والضوابط التي تندرج في هذا الخصوص، لكن بإيجاد ترجمة عملية لتلك القوانين وتطبيقها في أرض الواقع، في آجال زمنية محددة، على أن تعمّ كل المجالات والحقول ذات الصلة بالتداول والاستخدام اللغوي: كتابة وشفاهة.. كالاقتصاد، والإدارة، والتجارة، والتربية، والتعليم العالي، وسائر المؤسَّسات والهيئات الوطنية.. بإيجاب تطبيق رزنامة عمل يتم بموجبها إعادة السيادة على نحو صريح وواضح للعربية في موطنها، ووجوب تعامل الإدارات خاصة بها في مراسلاتها وتواصلها وأعمالها. وليس كل ذلك بعزيز لو أن الحراك الوطني الشعبي السلمي العالي الزخم أوصل رسالة واضحة إلى الهيئات المعنية ـ بالحكم ـ والحرص على أن تجعل ذلك من مطالب الحراك الأساسية.. باستعادة الهوية الوطنية ممثلة في هذا البعد التواصلي القيمي. ولن يكون صعبا أبدا تحقيق ذلك وتطبيقه بتدرُّج على مدى زمني معتبر. وقد فعلت ذلك كثيرٌ من الدول والمجتمعات.. ولعلّ الله تعالى ييسّر هذا الأمر فتربح العربية معركة كبيرة من معاركها مع المتنفذين الذين حاربوها على مدار عقود لحساب لغة أجنبية متراجعة عالميا.. ولا تتقدم إلا في ديار أهل المغرب العربي للأسف الشديد .

ثانيا: مما يلحق الجزء الأول والذي أشرنا فيه إلى الإرادة السياسية الصريحة.. ما يتعلق بتعريب المحيط، فالجميع يعرف مدى تمدد الفرنسية خاصة، وغيرها من اللغات في لافتات لوحات المؤسسات والمصانع والحوانيت والدكاكين والمحلات التجارية.. حتى إن المرء حين يزور بعض المدن يشك أن يكون في بلد عربي، عندما يرى ذلك الطغيان للغة الفرنسية في شوارعها وأزقتها.. وتفنّن أصحاب المحلات في اختيار الحروف والكلمات الأعجمية كلافتات وعناوين لمحلاتهم.. وهي لعمري سيئة من سيئات الاستلاب الحضاري الذي ضرب أطنابه في النفوس والعقول، حتى فيما يتصل بأبناء الشعب البسطاء.. وإلا ما الذي يدعو حلاقا إلى كتابة لافتة على محله باللغة الأجنبية، وما الذي يدعو صاحب محل لبيع المرطبات أو مخبزة أو جزار، أو بقال، أو مكتبة ووراقة؟ إنها نُذر شؤم وضعف شخصية وانبهار أمام الغازي.. وتحقير واحتقار للشخصية الوطنية الإنسانية الأصيلة، قبل احتقار العربية كلغة.. ودون شك تتحمل الدولة كل المسؤولية في هذا الشأن؛ لأنها هي التي تسمح أو تمنع، وهي الناظم لحياة الناس وهي التي تقود عندما يتصل الأمر بالرأي العام وبشخصية الوطن وقيمه. لكن مرت علينا سنون جنون كان من نتائجها هذا التمدد الرهيب للغة الأجنبي ونمط عيشه ونمط تفكيره وأسلوب حياته. ولا بد من تصويب هذا الخطأ الكبير، والدولة تقدر على ذلك.. بالتعاون مع المواطنين طبعا.

ثالثا: مما يستوجب العزم والحزم هو تجنُّد فئات كثيرة متعددة الألوان والأعمال، من الجنسين، من الوطنيين ومحبِّي العربية، وهم في مواقع متعددة، وأهل قدرة واقتدار، لعلهم عشرات الآلاف، إن لم نقل الملايين، لو اجتمعت كلمتهم وحددوا لهم أهدافا واضحة، بعد تشخيص ودراسة للواقع اللغوي في الوطن، لاستطاعوا أن يأتوا بالأعاجيب في تعزيز العربية وإعادة مجدها المطموس والرقيّ بها إلى المكانة التي هي مكانتها الأصلية لغة سيَّادية مستخدَمة على نطاق واسع رسميا وشعبيا، دون التضييق على أي لغة أخرى، وإنما المكانة الأساس للعربية باعتبار التاريخ وباعتبار المتكلمين بها، وباعتبارها مقوّما من مقومات الوطن .

فهل يمكن أن يوجد نفرٌ ممن يجعلون هذا الأمر واحدا من همومهم الحضارية الجميلة ويعكفوا مجتمعين وفرادى على دراسة الخطط المناسبة لهذا الأمر الجليل، والتفكير السليم الجاد سيقود حتما إلى وضع تصوّر جامع واقعي يرضي الجميع ويحقق المطلوب في سنوات قليلة.. فمن لها؟

رابعا: وجوب التعاون الحقيقي المُثمر بين مؤسسات متخصِّصة كالمجلس الأعلى للغة العربية والمجامع اللغوية والمخابر المتخصِّصة أيضا في الجامعات، وكذا كليات الآداب واللغات بأساتذتها وخبرائها وطلابها وطالباتها، وهم ألوفٌ مؤلفة فيهم أرفع المقتدرِين وأقوى اللغويين وأكبر القامات من أهل الاختصاص. إن تعاونها سيحقق الكثير، ليس بتكثير سواد المهتمِّين والمشتغلين فقط، بل بخططٍ عملية تحقق للعربية علوّ المكانة ودوام الاستخدام، والارتقاء بالأداء اللغوي والذائقة اللغوية وتوسيع دائرة جماليات العربية في النفوس والعقول.. وينبغي أن تكون له ـ أيضاـ خطط وبرامج وأنشطة وفعاليات.. والأمر متيسِّر لو حسُنت النيات.

مقالات ذات صلة