-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تقييم الأبحاث العلمية: أزمة خانقة!

تقييم الأبحاث العلمية: أزمة خانقة!

فاز الرياضياتي الروسي الأمريكي فلاديمير فويفودسكي Voevodsky (1966-2017) بميدالية فيلدز (المعادلة لجائزة نوبل) عام 2002 إثر برهانه على ما يعرف بمخمّنة ميلنور Milnor. وعرف هذا العالم حياة صعبة صارع فيها، بشكل غريب، المدّ الإلحادي الذي ترعرع فيه في موسكو والمعتقدات الماورائية التي غاص فيها بعد ذلك خلال هذا القرن في الولايات المتحدة، إلى أن توفي في سنّ مبكرة عام 2017. وبعد 10 سنوات من نيله أعلى وسام علمي صرّح أنه بعدما تأمّل في كيفية تطوّر الرياضيات أدرك أنها على وشك مواجهة أزمة خطيرة تدكّ كيانها نظرا للتعقيدات التي تعرفها الرياضيات البحتة أكثر فأكثر.

 اللجوء إلى الحاسوب صار حتميًا؟

كيف ذلك؟ إن تراكم الأبحاث البالغة التعقيد بالنسبة للمحكمين والمقيّمين والأقران يجعل هؤلاء عاجزين عن تدقيق تفاصيل البراهين الواردة في تلك البحوث. ويترتب على ذلك تسّرب أخطاء لا يتفطن إليها خبراء التقييم. وهكذا يتم نشر أبحاث غير خالية من الأخطاء حتى في منشورات كبار العلماء، ولا أحد يدري أنها أبحاث غير موثوقة. وتلك المقالات بأخطائها تصبح بعد ذلك مرجعا لمقالات موالية… فتتراكم بذلك الأخطاء في المنشورات مما قد يحدث انفجارات داخلية في بنيان عديد الفروع الرياضية. وهذا ما جعل فلاديمير فويفودسكي يفكّر في تصميم آلة تساعد على التأكد من صحة براهين الرياضيات البحتة على الرغم من أن هذه المسألة تمت دراستها في السابق، وأُثبت أنه لا يمكن تصميم مثل هذه الآلات.

وقد روى فويفودسكي بنفسه أنه كان شاهدا على أخطاء صدرت في أبحاثه الشخصية المنشورة، ولم يتم التفطن إليها إلا بعد سنوات، ويشهد أيضا أن ألمع زملائه مرّوا بمراحل مشابهة. وعلى كل حال، فمبدأ مراجعة الأقران، وهو المبدأ الذي تنتهجه كل المجلات الأكاديمية، وبوجه خاص في الرياضيات، صار محلّ نقد متزايد من قِبل جمهور الباحثين. والسبب هو ضعف تقييم عدد كبير من الخبراء الذين لا ينتبهون إلى مواطن الفشل في المقالات إما لقلة خبرتهم وإما لضيق الوقت الذي يخصصونه لمراجعة المقالات. كما أن هناك سببا طبيعيا آخر في تسرب الأخطاء يكمن في الاعتماد على “الثقة المتبادلة” في النشر بين كبار العلماء وذوي السمعة العالية خلال عملية تقييم الأقران.

كانت هناك تجربة مريرة في استعمال الحاسوب للتأكد من صحة أحد البراهين، وأثارت هذه التجربة ضجة غير مسبوقة قبل نحو 4 عقود لدى علماء الرياضيات رافضين قبول برهان لمجرد أن الحاسوب تأكد من صحته. حدث ذلك حين تمّ في منتصف السبعينيات استعمال الحاسوب لإثبات نظرية الألوان الأربعة -القائلة بكفاية أربعة ألوان لتلوين أية خريطة بدون أن يكون لمنطقتين متجاورتين نفس اللون. وفي ذلك الوقت يبدو أن أرقى مجلة رياضية (وهي Annals of Mathematics) عارضت هذا البرهان لكونه كان مدعَّما بالحاسوب. لكن الزمن تغيّر وأحدث الحاسوب ثورة في التعاطي مع الرياضيات.  

وقد تكرّر نفس المشهد في إثبات مخمّنة كبلر Kepler. والمُخمَّنة في الرياضيات هي نتيجة يميل العلماء إلى صحتها دون المقدرة على إثباتها. تساءل كبلر في مخمنته عام 1611م عن طريقة الرَّكم الأكثر كثافة للكرات؟ ثم أجاب بدون تقديم برهان أن تلك الطريقة هي نفسها المتبعة في ترتيب حبّات البرتقال التي نراها على رفوف أي بائع للخُضَر والفواكه ! ولم يتم البرهان على هذه المخمَّنة إلا عام 1998 (أي بعد نحو 4 قرون من طرحها) حين استخدم الحاسوب.

وتأخر نشر تفاصيل البرهان إلى سنة 2006 لأن تدخل الآلة في الإثباتات لا يطمئنّ إليه الرياضياتيون. ولم يتم التأكد من هذا البرهان بشكل قطعي إلا سنة 2014 بعد أن أزيلت منه مئات الأخطاء! لكن لماذا مضى كل هذا الوقت قبل أن يتم البرهان على المخمّنة؟ تكمن الصعوبة في وجود عدد غير منتهٍ من الوضعيات الممكنة للكرات، وهو ما دعا إلى استعمال الحاسوب.

 صائب في اليابان خاطئ في ألمانيا!

وحديثًا، في أغسطس 2012، أصدر عالم الرياضيات الياباني الشهير شينيتشي موتشيزوكي Mochizuki، الأستاذ في جامعة كيوتو، أربعة أبحاث متوالية على شبكة الإنترنت لتطوير إحدى النظريات ينجم عنها البرهان على عديد النتائج المستعصية، منها مخمّنة تُعرف باسم “مخمّنة abc” ظهرت لأول مرة عام 1985.

وعلى الرغم من العديد من المؤتمرات الدولية التي يتم تنظيمها منذ ذلك الحين للتأكد من برهان موتشيزوكي، لم يتوصل علماء الرياضيات إلى اتفاق بشأن صحة هذا البرهان. فأبحاث هذا العالم الذي قدم فيها برهانه جاءت في 500 صفحة، ويبلغ الحجم الإجمالي للأبحاث ذات الصلة المستخدمة في عمل موتشيزوكي 1500 صفحة !

وفي الوقت الذي اقتنع فيه المتعاونون المقرّبون مع موتشيزوكي بأن برهانه صحيح، ظلّ عالمان ألمانيان بارزان واثقيْن بوجود خطأ دقيق في هذا العمل. وهكذا، ينتهي الأمر بأسرة الرياضيات حاليا بموقف سخيف متمثّل في أن “مخمنة abc” هي نظرية (تم إثباتها) في اليابان بينما لا تزال تخمينًا مفتوحًا في ألمانيا ! فكيف نخرج من هذا المأزق دون استعمال الآلة إذا ما علمنا أن إجمالي المدة المطلوبة لعملية تدقيق هذا البرهان من قِبل علماء الرياضيات مدة تتجاوز 30 سنة.

لذا دعا فويفودسكي إلى “رفع الحظر” بشكل رسمي في عالم الرياضيات على استخدام الحواسيب للتحقق من البراهين المستعصية. وفي هذا النقاش الحاد ندرك أن حالة البرهان الرياضي أصبحت في الوقت الحاضر غير مستقرة ولا بد من مراجعتها. أليس من الواضح لماذا زعم فويفودسكي عام 2012 أن الرياضيات على وشك الدخول في أزمة… وأنها الآن تتخبط فيها؟  

ومع ذلك فلا مناص من التقييم البشري الذي سيظل في كل الأحوال أمرا ضروريا : فمهما تفوّقت الآلة فإن تقييم الإنسان للأبحاث العلمية سيكون له وظيفتان هما ضمان صحة البراهين وتقدير القيمة العلمية للنتائج الجديدة. ومن ثمّ، سيظل الإنسان اللاعب الأساسي في تحديد النتائج الجديرة بالنشر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!