-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

توفيق بن زردة يشرّح السياسات الاستعمارية في الدول المغاربية

د. حسين بوبيدي
  • 998
  • 0
توفيق بن زردة يشرّح السياسات الاستعمارية في الدول المغاربية

صدر عن مطبعة دار الهدى بعين مليلة كتابٌ جديد للأستاذ والباحث: د. توفيق بن زردة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة العربي بن مهيدي أم البواقي، عنوانه: حفريات حول السياسة الاستعمارية في الدول المغاربية، يهدف إلى إعادة قراءة الظاهرة الاستعمارية، وتفكيك البنى الفكرية التي تستند إليها، وفهم السياقات التي أنتجتها، باعتبارها ناتجة عن اختلال موازين القوى في حوض المتوسط لصالح الدول الأوروبية، وقد عمد المؤلف إلى تنويع المقاربات، واستحضار عدّة مداخل للإحاطة بالموضوع، وإيضاح الصورة التي تُبرز هذه الظاهرة بوجوهها المتعددة، وتشرّحها بما يبيّن خلفياتها، وظروف تشكّلها، وتمظهرات سياساتها على مختلف الأصعدة.

يعدّ هذا الكتاب؛ تتمة لكتاب صدر سنة 2021 للمؤلف؛ حمل عنوان: هوامش مجهولة: قراءة جديدة للسياسة الاستعمارية في الدول المغاربية، وهو ينتمي إلى أعماله الرامية إلى تجديد الدراسات التاريخية، سواء على مستوى الكشف الأرشيفي فيما درسه استنادا إلى ما يخص الجزائر العثمانية بالأرشيف الوطني التونسي، أو إلى تعميق الأبحاث في تاريخ الجزائر في الفترة الاستعمارية من خلال الوثائق الأرشيفية التي تعود إلى هذه المرحلة، وثالثا في التأصيل لقراءة جديدة لمشكلات تاريخية قد يبدو أنها مدروسة، لأجل إعطاء رؤى مختلفة؛ بعيدة عن التاريخي القصصي والحكواتي والتبسيط القصاصاتي الذي ابتلي به هذا التخصص.

قسّم الدكتور توفيق بن زردة كتابه إلى خمسة فصول؛ حمل الفصل الأول عنوان: رواسب تاريخية وتجاذبات مرحلية؛ رصد فيه ملامح تشكل عصر جديد في المنطقة ونهاية ملامح  المرحلة التي يسميها التحقيب الأوروبي: العصور الوسطى، إذ يتابع المؤلف التوسع العثماني وإعادة رسم خريطة البلاد الإسلامية بناء على انتصارات العثمانيين التي أفضت إلى فتح القسطنطينية والإخفاقات المغاربية التي انتهت بسقوط غرناطة وعدة مدن مغاربية ساحلية، وسيعوِّض العثمانيون الممالك الحفصية والزيانية الإمارات والمشيخات المحلية، ويهيكلون في هذا المجال دولا ثلاثا تتخذ من: الجزائر، وتونس، وطرابلس الغرب عواصم لها، ستنتج عنها سياسيا أنماط حكم جديدة، بينما اصطدم الباب العالي بالحكم السعدي ثم الوطاسي في المغرب الأقصى، وحافظ المجال الصحراوي الغربي -والذي سيصبح جزء منه موريتانيا لاحقا- على حكم مشيخي قائم على توازنات العرف ومجلس الجماعة ومؤسسة المشيخة.

ويبرز المؤلف في هذا الفصل تشكّل الصورة النمطية لدول بلاد المغرب الحديث في أوروبا باعتبارها: ساحل القراصنة ونيابات البرابرة، وسيعمدون في سياق محاولة التفرد بالسيطرة على حوض المتوسط واستكمال حركة الكشوفات والاستعمار إلى رسم سياسة قائمة على الفهم والاستكشاف والدراسة تمهيدا للإحتواء ثم الالحاق والسيطرة والاستيطان، وهنا يرصد لنا الدكتور بن زردة مختلف الأعمال التي أنجزها الأوروبيون في مختلف التخصصات؛ والتي كانت تقدَّم على أنها استكشافية علمية بينما كانت بمثابة صناعة المفتاح الذي ييسّر فتح باب العالم المجهول والسيطرة عليه، وباستحضار نموذج الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، ندرك في نهاية الفصل اكتمال مشروع الاعداد والتدبير، وانكشاف التباين الكبير في مستوى القوة والتنظيم؛ والذي ينتهي بتدشين الاحتلال عبر بوابة الجزائر سنة 1830.

عنون المؤلف الفصل الثاني: استعمار الدول المغاربية.. الأنماط والأبعاد؛ وقد افتتحه بالتأكيد على أن مؤتمر فينا 1815كان بمثابة إعلان بداية ابتلاع القوى الأوروبية للساحل المغاربي، وتصفية الحسابات القديمة، وكانت حملة اللورد إكسموث على مدينة الجزائر سنة 1816ونتائجها، بمثابة التأكيد على تجاوز مرحلة توازن القوى، وإخراج الجزائر من دائرة “القوى المحسوب حسابها”، وبداية تنفيذ مخطط تقطيع أوصال الدولة العثمانية، وقد بدأ ذلك بمحاولة رئيس الحكومة الفرنسية جيل بولينياك/JulesPolignac تشكيل دولة عربية معادية لها؛ تتبع محمد علي بعد تحريضه على احتلال طرابلس الغرب وتونس والجزائر، لكن بريطانيا اعترضت على المشروع، ولم يكن تأخّر احتلال تونس إلى سنة 1881إلا نموذجا للخلافات حول ترتيبات الاحتلال والاستغلال بين كثير من الطامعين الأوروبيين، وخاصة تفاهمات الفرنسيين والبريطانيين لتقويض أطماع الإيطاليين، ثم انتهت ليبيا إلى نفس المصير، إذ سقطت في يد إيطاليا سنة 1912، بينما ستقتسم فرنسا وإسبانيا المغرب الأقصى والصحراء الغربية وتضعهما تحت الحماية مقابل ترضيات وتعويضات للألمان في داخل الأراضي الإفريقية، وينتهي المجال الموريتاني لصالح الفرنسيين تتمة لقرون طويلة من الاكتشاف والاحتلال للسواحل الذي بدأ مع البرتغاليين منذ القرن 15، وقد نسج الدكتور بن زردة هذه الحوادث في إطار تحليلي يبيِّن أنماط اشتغال السياسة وإدارة الدول الكبرى لصراعاتها، وعجز الدول المغاربية عن أيِّ ردٍّ قادر على منع حدوث هذه القرارات بسبب التباين الكبير في القوى، والعجز عن مواجهة الآلة الاستعمارية بتنظيمات أرهقتها الصراعات والعجز عن ردم الهوة الحضارية بين الجنوب والشمال.

ثم ركز المؤلف في العناصر الأخيرة من هذا الفصل على تباين أنواع الاستعمار للدول المغاربية، وإعادة تشكيل هذه المجالات وفق لغة المصالح والاستغلال، واستيراد النماذج التنظيمية التي نتجت عن التاريخ الأوروبي، وإخضاع البُنى الاجتماعية في المنطقة لها بالقسر والإلزام القانوني، مما أدى إلى تشرذم المجال، وخلق مفاهيم جديدة كسرت الامتداد والوحدة لصالح سياسات البتر والحدود والغلق والانغلاق ومركزية الانتماء الترابي على حساب الانتماء للأمة، وفي كل هذه المحطات كانت الآلة الفكرية نشطة في تبرير كل هذه الممارسات والمظالم من خلال دعم الواقع الاستعماري بأدبيات ممجِّدة، ومدرِجة لكل المآسي التي حلت بهذه المجالات ضمن “ضريبة التحديث”.

بعد عملية الإغراق الاستعماري للساحل جاء دور المناطق الداخلية ثم الصحراوية، إذ سيواجه الاستعمار مقاومة حاولت منعه من تثبيت أركانه وتوسيع احتلاله، ما جعله يعتمد أسلوب الاحتلال: قطعة- قطعة، عبر عمليات الاستعمال الوحشي للقوة التي تبلغ ارتكاب المجاز والحرق والحشد في معتقلات كبيرة، ثم العمل على تفكيك البنى الاجتماعية، وكسر منظومة القيادة، وغرس أقلية استيطانية.

خصص الدكتور توفيق بن زردة الفصل الثالث من الكتاب لـ: السياسة العسكرية والاستخباراتية والإدارية، وقد تابع فيه مسار التوسع الاستعماري مستحضِرا أبعاده الاستراتيجية التي جعلته يركّز الجهد الأول على إخضاع الساحل المغاربي والتحكم الصارم فيه، لأنه نقطة ارتكاز هذه الدول في صراعها ضد أوروبا طيلة قرون، وبعد عملية الإغراق الاستعماري للساحل جاء دور المناطق الداخلية ثم الصحراوية، إذ سيواجه الاستعمار مقاومة حاولت منعه من تثبيت أركانه وتوسيع احتلاله، ما جعله يعتمد أسلوب الاحتلال: قطعة- قطعة، عبر عمليات الاستعمال الوحشي للقوة التي تبلغ ارتكاب المجاز والحرق والحشد في معتقلات كبيرة، ثم العمل على تفكيك البنى الاجتماعية، وكسر منظومة القيادة، وغرس أقلية استيطانية. وبعد تحطيم الداخل وترسيخ القدم الاستعمارية فيه تم التوسع جنوبا من خلال السيطرة على الرئة التي يتنفس فيها؛ وهي الواحات ومناطق المياه، وفي كل ذلك كان الاستعمار يعتمد التجسس والاختراق من الداخل (ضرب المؤلف هنا مثلا بالجاسوس ليون روش)، وإنتاج  خطاب ديني تنويمي يمارس الدور التبريري للاستعمار، وإنتاج وسيط أهلي من داخل البنية الاجتماعية والعقل المحلي ليكون “رسول الاستعمار” إلى الشعوب المغاربية، مقابل الامتيازات المالية والسلطوية.

وفي هذا السياق يكشف المؤلف عن طريقة الاستعمار في استثمار الوضع القائم وتسخيره والاستفادة منه عبر إعادة تكييف أدواره وإنتاج معايير جديدة للزعامة قوامها الولاء للمستعمِر وتنفيذ أهدافه، ومن أجل إكمال الإخضاع والتحكم في كل المفاصل تغوّل الجهاز الإداري تدريجيا وتوسعت معه المنظومة القانونية لأجل استيعاب مرامي السياسة الاستعمارية، وتم ترسيخ مؤسسات جديدة وتجذيرها، ويعطي هنا الدكتور بن زردة العديد من الأمثلة لهذه السياسات، مركِّزا على السياسة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر.

خصص الفصل الرابع من هذا الكتاب للسياسة الاقتصادية؛ شرّح فيه المؤلف ما سمّاه الاستعمارَ بالمحراث وتفكيك رابطة الانسان والأرض، مبرزا علاقة هذه السياسة بمسلك الإخضاع والتفكيك الاجتماعي وترسيخ واقع استيطاني جديد، وتحويل الاقتصاد المغاربي إلى خادم لهيكلة الاقتصاد في الدولة المستعمِرة، وقد تابع المؤلف القوانين العقاربة واستنطق غاياتها المضمرة تحت شعارات التنظيم والتحديث، بينما كانت تمارس التحطيم والإفراغ والاستحواذ وإعادة تشكيل بنيات اجتماعية لا عمق لها لأجل كسر روح التضامن القبلي والأسري، وتحويل أراضي العزَّل والمساحات الواسعة الممتدَّة التي كانت تمثِّل نموذج الملكية الجماعية التضامنية إلى أراضي تتبع مؤسَّسات الاستعمار الفلاحي الرأسمالي، وفي هذا السياق يمنحنا المؤلفُ إحصائيات هامَّة تُبرز عملية الاستحواذ والاستغلال والتسخير، ثم ينتقل إلى الصحراء لنكتشف معه تحطيم الدور الاقتصادي الذي مارسته منذ قرون في الوساطة الاقتصادية بين بلدان إفريقيا جنوب الصحراء ومنطقة الساحل، لتتحول الواحات إلى مجرد قواعد خلفية للاقتصاد الاستعماري، وتحوّل ساكنته إلى أداة ضمن هذه السياسة.

حمل الفصل الخامس من هذا الكتاب عنوان: السياسة الاجتماعية والدينية والثقافية، وهو يشرح فيه السياسة الاستعمارية وآلية اشتغالها، فنكتشف أن التغيّر الاجتماعي ومشاريع التشتيت إنما كانت تستند إلى ذلك الاكتشاف العميق الذي درس المجتمعات المغاربية، وسخّر هذه الأبحاث والدراسات في هدم وحدتها، وتفتيت روابطها، وذلك عبر سياسات التشتيت الاثني (عرب/ بربر) وتأخير عامل الوحدة الديني باعتباره غير أساسي في التحديد الهوياتي، وترسيخ سردية تاريخية تؤسس لحالة احتراب دائم بين المكوِّنين، والعمل على زرع مجتمع جديد من المستوطنين كأنه الضامن للاستقرار وإقامة حكم بينهما، ومن جهة أخرى تكريس ثنائية الحاضرة والريف، وإقحامها ضمن الثنائية الاثنية، وابتداع فكرة “الظهير البربري” كآلية تفكيكية تنقل المشروع من مستوى التنظير إلى مستوى التطبيق، وتابع المؤلف في هذا الفصل الأعمال الإثنولوجية والأنثروبولوجية التي تخدم هذه الرؤى الاستعمارية، وتوفِّر لها منطلقات رسم السياسات وسبل تجسيدها، ثم انتقل إلى محاولات “تدجين الخطاب الديني” وتفريغه من شحنته الجهادية المعادية للاستعمار، وإعادة إنتاج خطاب جديد تتم مصادرته من خلال التحكم في هرمه المشيخي وتوجيهه لصالح الاستعمار.

ويرصد الدكتور توفيق بن زردة الظواهر بدقة، ويتابع الخلفيات بذكاء، ويحللها بعمق، ويقدّم كل ذلك في أسلوب جميل ولغة بديعة، تجمع بين  قوة الطرح وسلاسة النص، وكتابُه هذا نموذجٌ للكتابات التي تقدِّم التاريخ بأدواته، وتشتغل عليه بمناهجه، وتعيد بناء الحوادث بعقلٍ يخاطب القارئ النبيه بما يدفعه إلى مزيد من المعرفة والاهتمام.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!