-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جائحة كوفيد وحمى التعميد في إفريقيا

جائحة كوفيد وحمى التعميد في إفريقيا

إن المتربص يتحين دائما الظرف الأنسب لاصطياد ضحاياه، وينطبق هذا على موجات التنصير في إفريقيا التي ازدادت بوتيرة متسارعة تضاهي موجات كوفيد. لم يكن تركيز المنصِّرين على إفريقيا في هذا الظرف العصيب اعتباطيا، فاسم إفريقيا يرتبط تاريخيا بوجود نسبة عالية من الأميين والمعدومين، فإذا أضيفت إلى ذلك نسبة عالية من الشعور بلا أمن تجاه جائحة كوفيد، فإن هذا يشكل بيقين فرصة سانحة للمنصِّرين للانفراد بضحاياهم تحت مظلة العمل الإنساني وخاصة في ظل الانسحاب اللافت للنظر للجمعيات الدعوية الإسلامية الذي سمح لقوافل التنصير بالعمل المريح بعيدا عن الضجيج وصداع الرأس الذي يسبِّبه وجود هذه الجمعيات، فقد أصبحت إفريقيا في ظل هذه المعادلة غير المتكافئة كالميدان الذي يعدو فيه حصانٌ واحد.

تشتغل آلة التنصير في إفريقيا في زمن كوفيد بالسرعة القصوى، فهذا الزمن بالنسبة للمنصِّرين هو الزمن الخصب لنشر تعاليم الرب، فحيثما توجد جائحة فهناك سانحة، يحدث هذا والدعاة المسلمون كالأطرش في الزفة لا تمثل مقاومة التنصير بالنسبة لهم أولوية، بل إنّ هناك من يبرر النشاط التنصيري في إفريقيا بأنه “شكلٌ من أشكال التدافع” أو بأنه “مظهر من مظاهر الصراع الطبيعي بين الأديان”.

من المفارقات أن الفاتيكان الذي أعلن انفتاحه على الحوار مع غير المسيحيين في المجمع الفاتيكاني الثاني، يمارس وظيفة مزدوجة، يحاور من جانب ويناور من جانب آخر، يتعهد باحترام الخصوصية الدينية والحرية الفكرية ثم يحمل على إفريقيا في عز جائحة كوفيد بخيله ورجْله، يعمِّد من شاء ومن لم يشأ، لأنه يعلم أن من لم يشأ لن يصمد طويلا لأن وقع الجائحة يُعمي ويُصمّ ويُنسي الإنسان المبادئ والقيّم.

لقد ازدادت موجات التعميد في إفريقيا مع زيادة موجات كوفيد، وقد لا يتصور كثيرون حجم الإرساليات الطبية التي تسيِّرها المؤسسات التنصيرية في إفريقيا، كل ذلك بمقابل، والمقابل هنا ليس ماديا بل معنويا، إن بعض الشعوب الإفريقية -وخاصة في مجاهل إفريقيا- تدفع عقيدتها وديانتها ثمنا لسلامة أبدانها في قارة اجتمعت عليها أزمات الماضي والحاضر.

يطالعنا الإعلامُ الدولي بأن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان قد عزّزت وجودها ونشاطها في إفريقيا من أجل حماية إفريقيا من مغبة الجائحة، ولكن هناك فرقا بين ما يقال وما يفعل، فالمؤسسة الوحيدة النشيطة في إفريقيا هي مؤسسة التنصير، وأما ما عداها فمنظماتٌ تقول ما لا تفعل. ليت المؤسسات الدينية المسيحية التي تقود عملية التنصير في إفريقيا ممثلة في الكنيسة البابوية والكنيسة البروتستانتية والإرساليات التنصيرية المختلفة اجتمعت على نصرة إفريقيا في زمن كوفيد كما اجتمعت على تنصيرها، فرسائل التضامن الإنساني التي بعث بها الكرسي البابوي إلى المنظمات الدولية من أجل حماية إفريقيا من شر جائحة كوفيد لا تضاهي حجم الإرساليات التبشيرية التي أرسلها الفاتيكان لتعميد الأفارقة، وفي ذلك شطط واضح يبيّن أن الفاتيكان لا يهمه من أمر إفريقيا إلا كونها وجهة لتكريس المعمودية في قارة ينظر إليها المنصِّرون على أنها قارَّتهم التي سلبها منهم “الغزاة المسلمون” على حدّ زعمهم وأنها لا بدّ أن تعود إليهم في يوم من الأيام.

يتعامل المنصِّرون مع إفريقيا بمنطق الوصاية الروحية، ولذلك يوجِّهون اهتمامهم إلى هذه القارة أكثر من قارَّة أخرى، لأنهم يستذكرون التقارير التي تتنبأ بحركة أسْلمة كبيرة قادمة في هذه القارة في غضون ربع قرن أو يزيد قليلا، ويستذكرون أيضا وعود أسلافهم بأن إفريقيا ستعود مسيحية كما كانت. لهذه الأسباب وغيرها لا يتخلى المنصِّرون عن إفريقيا وخاصة في زمن الأزمات الكبرى كأزمة كوفيد التي جعلتهم يجنّدون طواقمهم الدينية من أجل إقناع “مواليهم” و”مخاليفهم” في إفريقيا بأنّ خلاصهم من الجائحة موقوفٌ على استجابتهم لـما يسمّونه “نداء المسيح”.

ويتعامل المنصِّرون أيضا مع قارة إفريقيا بأنها محميةٌ مسيحية، وهذا ما نستشفه من رسائل بابا الفاتيكان إلى منظمة الصحة العالمية والمنظمات الدولية الإنسانية والحقوقية من أجل إنقاذ إفريقيا من شبح كوفيد، وهذا أمرٌ ظاهره إنساني لا نختلف معهم فيه ولكن باطنه تنصيريٌّ بامتياز، ويجب التفريقُ هنا بين الدعوة إلى النصرانية كشكل من أشكال الدعاية الدينية التي تمارسها كل الأديان وبين التنصير الذي يتم في الغالب الأعم عن طريق الإكراه المباشِر أو غير المباشر من وسائل الإغراء الكثيرة.

استغلت المؤسسة التنصيرية أزمة كوفيد من أجل إعادة تنظيم هياكلها وتجديد مخططاتها الدعائية في إفريقيا بما يستجيب لحجم التحديات الكبيرة التي تواجهها، ومن هذه التحديات التسليم بأن فشل مساعيها في محاصرة الجائحة سينسحب على مساعيها في تعزيز قواعدها الدينية في هذه القارّة، فتأمين مستقبل المسيحية في إفريقيا مرهونٌ بتأمين حياة المسيحيين والمتمسِّحين الجدد ومن تستهدفهم الدعاية التنصيرية.

من حقِّ المؤسَّسة التنصيرية أن تفعل ما تشاء من أجل رعاية أتباعها في زمن كوفيد مما يمليه عليها ضميرُها الديني، ولكن ليس من حقها أن تمارس التضليل الإعلامي، فهي لا تتوانى عن تشويه صورة الإسلام في أذهان الأفارقة قياسا على تصرُّفات بعض المسلمين الذين تخلُّوا في زمن كوفيد وفي كل زمن عن دورهم الدعوي في إفريقيا واستسلموا للمنصِّرين وسلموهم ذمم المسلمين على طبقٍ من ذهب. إن استفحال ظاهرة التنصير في إفريقيا مردّها بالدرجة الأولى إلى الانسحاب المدوِّي للدعاة المسلمين الذين شغلتهم خلافاتُ مالك والشافعي وابن تيمية وابن العربي عن الاهتمام بمكسب تاريخي مهمّ وهو إفريقيا التي هي ثمرة من ثمار الفتح الإسلامي.

قرأتُ لبعض الكتّاب اللاهوتيين مقالاتٍ عما يسمونه “معجزات الكتاب المقدس في مواجهة جائحة كوفيد”، فقد زعم أحدُهم أن وقع بعض آيات الإنجيل على المرضى عجيبٌ غريب؛ فقد تعافى أكثرُهم بمجرد سماعهم هذه الآيات، وهذا يؤكد من جهة –كما ادّعى- قدرة “الكلمة المقدسة” على اختراق الباطن الإنساني المثقل بالخطايا، كما يؤكد من جهة أخرى أن “استلهام روح المسيح” من شأنه أن يحرر الإنسان من أمراض الجسد والروح في آن واحد. إن هذا في الحقيقة هو منتهى الدجل؛ فالمسيح كان يعالج المرضى والصرعى باسم الله الواحد الأحد، أما المنصِّرون فيعالجونهم باسم “الأب والابن وروح القدس”، فلم نشهد لكلمات الإنجيل الحالي أي حالة من الحالات التي ذكرها بعض الكتّاب اللاهوتيين إلا ما كان من باب التمثيل العالي الجودة والذي لا يمتُّ إلى الحقيقة بصلة.

تشتغل آلة التنصير في إفريقيا في زمن كوفيد بالسرعة القصوى، فهذا الزمن بالنسبة للمنصِّرين هو الزمن الخصب لنشر تعاليم الرب، فحيثما توجد جائحة فهناك سانحة، يحدث هذا والدعاة المسلمون كالأطرش في الزفة لا تمثل مقاومة التنصير بالنسبة لهم أولوية، بل إنّ هناك من يبرر النشاط التنصيري في إفريقيا بأنه “شكلٌ من أشكال التدافع” أو بأنه “مظهر من مظاهر الصراع الطبيعي بين الأديان”.

على المسلمين، إذا هم أرادوا ربح معركتهم ضد التنصير في إفريقيا، أن يدركوا بأن سرّ نجاح التنصير  في هذه القارّة لا يكمن في قوّته الخطابية وإنما في قوة تنظيمه وحرصه على إفريقيا كموروث تاريخي لا يجوز التخلي عنه في كل الظروف وخاصة في ظل الأزمات الكبرى كأزمة كوفيد. ليس لإفريقيا اهتمامٌ كبير لدى الدعاة المسلمين باستثناء ما تقوم به بعض الحركات الدعوية النشيطة في إفريقيا، ورغم أن جائحة كورونا تمثل فرصة للدعاة المسلمين لشلِّ آلة التنصير وافتكاك المبادرة من أيدي المنصِّرين في إفريقيا، إلا أنَّهم لم يُحسنوا استثمار هذه السانحة وسمحوا للمنصِّرين بالاستحواذ على إفريقيا وبالظفر فيها بالجمل وما حمل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!