-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
في كواليس التاريخ

جان الموهوب عمروش: من الاندماج .. إلى الاستقلال

محمد عباس
  • 4433
  • 0
جان الموهوب عمروش: من الاندماج .. إلى الاستقلال

يشكل الشاعر والكاتب الصحفي جان الموهوب عمروش نموذجا متميزا من نماذج التعلق بالأصول الإثنية والارتباط بالأرض والوفاء لبني جلدته، رغم عقود من الانفصال الديني والثقافي والغربة التي جعلت من فرنسا وطنا ثانيا، بالتبني والمصاهرة والاندماج التام تقريبا في الشعب الفرنسي ونمط حياته الأخاذ.

  •  
    هذا النموذج المتميز نحاول في هذه العجالة التعريف به، من خلال يومياته ورسائله وبعض كتاباته ومواقفه، إبتداء من مجازر 8 مايو 1945 حتى وفاته في 16 أبريل 1962.
     
    ولد جان الموهوب عمروش سنة 1906 بإيغيل علي (بجاية) وهي قرية جمع بها الآباء البيض عددا من أيتام الغزو الاستعماري الفرنسي الذين تمكنوا من تنصيرهم.. وهناك جمع الأب »بالديت« بين والدته مرغريت فاطمة ووالدة »أنطوان بلقاسم«..
     
    درس الصبي بمسقط رأسه بمدرسة الآباء ليواصل دراسته الثانوية والجامعية… وقد أصبح أستاذا ثم شاعرا وكاتبا وأديبا وصحفيا وصادق أو عاشر خلال مسيرته الثقافية الطويلة -ما بين الجزائر وتونس وفرنسا- العديد من رجالات الأدب الفرنسي، أمثال أندري جيد وبول كلودال، وفرانسوا مورياك و»ألبير كامو«… إلخ.
     
    طبعا ما يهمنا في هذا الفضاء التاريخي هي مواقفه السياسية ومساعيه إبان ثورة التحرير، عندما تطوع لعرض وساطته في فترة ما بين الطرفين الجزائري والفرنسي.
     
    غداة الحرب العالمية الثانية كان جان عمروش يعد حصة أسبوعية كل جمعة لإذاعة الجزائري (الفرنسية)، تتناول عادة أحداث المغرب العربي… ومن خلال هذه النافذة طالعنا بموقفه من مجازر 8 مايو 1945، وكان يومئذ لا يختلف في شيء عن معظم »الأقدام السوداء« والسلطات الرسمية بقيادة الجنرال شارل دوغول. فقد عالج الحدث في حصتين متتاليتين:
     
    ـ حصة 18 مايو … وفيها اعتبر ما حدث ويحدث منذ 10 أيام »مؤامرة حقيقية ضد الوحدة الفرنسية وضد حكومة الجنرال دوغول، والروح الديمقراطية لقانون 7 مارس (1944)«.. ولم يتوان في الدعوة »لمحاكمة ومعاقبة المجرمين بتطبيق القانون بكل صرامة«.. ولم يكتف بذلك بل طالب بمراعاة الظروف المشددة لأن »المتآمرين مدينون لفرنسا بثقافتهم«!
     
    ـ حصة 25 مايو، وفيها تبنى عمليا موقف صحافي من المقاومة الفرنسية، دعا في التعليق على الحوادث »إلى احتلال الجزائر من جديد«! منبها إلى أن »هذا الاحتلال سيكون أشد من الأول«!
     
    ونسج على منوال »الصحافي المقاوم«، عندما وصف »المتآمرين بالخونة.. الذين أرادوا حفر خندق من البغضاء بين شعب الجزائر وشعب فرنسا«!
     
     
     
    نيجلان… »حفار قبر الجزائر الفرنسية«
     
    ولحسن الحظ أن جان عمروش راجع مواقفه بعد بضع سنوات. ويمكن اعتبار ما جاء في رسالته إلى فرانسوا مورياك (21. 12. 1955) بعد سنة من اندلاع الثورة الجزائرية بمثابة طفرة حقيقية. لم يتردد الكاتب في اعتبار الوالي العام السابق مارسال نيجلان »حفار قبر الجزائر الفرنسية«!..
     
    وذهب إلى حد وصف بسطاء المستوطنين »بالفاشيين الغلاة في سلوكاتهم مع الأهالي« (الجزائريين).
     
    وأكثر من ذلك أدان الجمهورية الرابعة على لسان الفريق المتقاعد دوغول الذي قال له قبل أسابيع قليلة: »ليس بمقدور هذا النظام أن يقرب فرنسا من الجزائريين«…
     
    وما يؤكد حدوث طفرة في موقفه قوله في رسالته: هناك حلان لا ثلاث لهما: »هوية جزائرية ودولة جزائرية، أو جزائر فرنسية خاضعة للقوانين الصادرة عن المجلس الوطني الفرنسي«.
     
    ويقترح الفصل في هذا الخيار بواسطة الاستفتاء.
     
    كان الكاتب يومئذ ما يزال يعتقد بإمكانية الحل الثاني، لذا نراه يخاطب فرنسا قائلا: »عليها أن تلعب ورقتها الأخيرة بالجزائر.. لقد بددت تقريبا كامل رصيدها على الصعيد السياسي. وحتى رصيدها المعنوي تآكل إلى درجة خطيرة، بحيث لم يعد يقبل منها غير الدفع الفوري«.!
     
    وفي 19 أبريل 1957 نراه يعاتب »بيار أنري سيمون« (من كتاب صحيفة »لوموند«)، لأنه مسك العصا من الوسط في حديثه عن التعذيب بالجزائر وإدانته… فقد راسله »باسم أقلية ممزقة ليست من المسلمين ولا من الأوربيين، أقلية لا تثير اهتمام أحد« راسله ليقول له: »لقد اتخذت موقفا شجاعا ضد التعذيب في الجزائر… لكنك لم تتحدث كثيرا عن الانتقامات الجماعية والمجازر المرتكبة في حق السكان.. من طرف منظومة متماسكة تماما، مجازر مبرمجة ومنفذة تحت مسؤولية السلطات العليا المدنية والعسكرية… نحن أمام سياسة إبادة، تحت غطاء كلمات مستعملة استعمالا مزيفا«..
     
    ويتوقع بالمناسبة أن تنتهي الحرب الدائرة في الجزائر »بانتصار سياسي للثورة الوطنية الجزائرية على دعاة التهدئة أمثال لاكوست وأتباعه.. وبانتصار فرنسا كذلك على القوى التي زجت بها في سياسة إجرامية وغبية وبدون جدوى«.
     
     
     
    »أنتم.. لا تمثلون شيئا!«
     
    كان جان عمروش قبل ذلك قد بدأ يتناول في يومياته أحداث الجزائر. فقد علق في 2 فبراير 1955 على مؤتمر صحفي عقده بباريس منتخبون عن الهيئة الثانية يتقدمهم الدكتور بن سالم ومشري.. ويخبرنا في هذا الصدد بأنه تحدث بعنف إلى هذا الأخير ليقول له ورفاقه: »أنتم لا تمثلون شيئا«! وأعرب عن أسفه أن تدعي مثل هذه »الحثالة من المنتخبين تمثيل الجزائر.. لما في ذلك من احتقار عميق للجزائريين«.
     
    وكان رئيس الوفد الدكتور بن سالم قد صرح بالمناسبة، أن القانون العضوي الخاص بالجزائر الصادر سنة 1947 قد تجاوزه الزمن. فعلق الكاتب على ذلك قائلا: »معنى ذلك أن الدكتور ورفاقه أيضا تجاوزهم الزمن«… وكان رأيه حينئذ »أنه في حالة إجراء انتخابات حرة، ستفوز حركة انتصار الحريات الديمقراطية بجميع المقاعد«. وختم تعليقه بشأن »المنتخبين« قائلا: »لقد انتقل المشعل إلى الآخرين (الثوار)… لا شيء يحصل بدون بعث النخوة الوطنية«.
     
    وكتب في نفس السياق بعد يومين كيف أن فرنسا الاستعمارية تحتقر مثل هؤلاء »المنتخبين«، متخذا بن شنوف رئيس بلدية خنشلة مثلا على ذلك: فقد كانت سلطات المنطقة لا تشركه في شيء مما يتعلق بالعمليات العسكرية أو المدنية في الأوراس، بينما تشرك نوابه الفرنسيين في كل صغيرة وكبيرة! وفي 27 يناير 1956 يخبرنا جان عمروش أنه حضر تجمع قاعة »فا ڤرام« بباريس الذي انعقد بمبادرة من لجنة المثقفين المعارضين لحرب الجزائر، وكان من بين الحضور كتاب وفلاسفة مرموقون أمثال سارتر وأدغار موارن وجانسن ومندوز… وتناول الكلمة بالمناسبة ليحاول شرح الدوافع التي دفعت الثوار إلى الإقدام على الثورة -قبل نحو 15 شهرا- من باب الاعتقاد أنه الوحيد القادر على ذلك. غير أن تدخله هذا تسبب له في مأساة عائلية: لقد نكرته عائلة زوجته (الفرنسية) باختصار! فقد تلقى منها رسالة في 11 فبراير الموالي جاء فيها بصريح العبارة: »إن ما تقوم به خيانة دنيئة لفرنسا ولنا أيضا! وبناء عليه نعتبر ابتداء من اليوم أنك لم تعد واحدا من عائلتنا«!
     
    هذا الإقصاء العائلي لم يمنعه طبعا من مواصلة التعبير عن آرائه في محاولة لتنوير الرأي العام الفرنسي بالقضية الجزائرية وأبعادها… على سبيل المثال شارك في أواخر أبريل 1958 بكل من ميلوز وسترازبورج في ندوة كان موضوعها: »الضمير الفرنسي أمام المأساة الجزائرية«. وكان إلى جانبه عقيد عمل بالجزائر تحت قيادة الجنرال »دوبولار ديير« الذي استقال من منصبه في منطقة الأطلس البليدي ربيع 1957، احتجاجا على انتشار ظاهرة القمع في حرب الجزائر.
     
    وبعد أيام معدودة حدث انقلاب 13 مايو الذي أسقط الجمهورية الرابعة، وأعاد على أنقاضها الجنرال دوغول إلى الحكم.. وكان تعليق الكاتب على ذلك: إنه توقع منذ أمد »أن تهز القضية الجزائرية الأمة الفرنسية إلى درجة الوقوف على حافة الحرب الأهلية«.
     
     
     
    وخاب الظن… في دوغول
     
    كان جان عمروش على سابق علاقة بالجنرال -كما سبقت الإشارة- لذا تحمس لعودته وعلق عليه آمالا عريضة، في إيجاد الحل المناسب للمشكلة الجزائرية بأسرع ما يمكن.. وقد سارع بعرض وساطته، لكن الجنرال فضل عليه الموثق والسياسي المحنك عبد الرحمان فارس صديق الكاتب…
     
    في 30 يونيو 1958 أخبر فارس صديقه عمروش أن الرئيس دوغول استقبله، وعرض عليه منصب وزير دولة في حكومته كممثل للجزائر على غرار »هفوت بواني« في »كوت ديفوار« وفي اليوم الموالي سبقه إلى فرحات عباس عضو لجنة التنسيق والتنفيذ -المكلف بالاتصال- الذي كان يقيم في مونترو (سويسرا) من حين لآخر. سبقه ليجس النبض بشأن الاقتراح آنف الذكر ويمهد له في نفس الوقت بالدفاع عن »حسن نوايا« الجنرال دوغول، وعن »وطنية ونزاهة« فارس الذي يكون حسب قوله »حصل على موافقة أعضاء لجنة التنسيق الأربعة«(1) سجناء »لاصنتي«…
     
    وفي  الغد التحق بهما فارس ليطرح الأمر على عباس مباشرة.
     
    وبعد خمسة أيام جاء رد اللجنة بالرفض، في برقية عن طريق سفير تونس بباريس محمد المصمودي، وأكد عباس هذا الرفض في رسالة إلى فارس، نقلها إليه في 19 يوليو عدة بن قطاط.
     
    وفي 22 من نفس الشهر استقبل الرئيس الفرنسي فارس رفقة صديقه جان عمروش، وكان موقفه من جبهة التحرير الوطني يومئذ -حسب الكاتب- يتلخص في التالي:
     
    ـ أعترف للجبهة بالتمثيل العسكري، ما يدفعني إلى التفاوض معها حول وقف القتال.
     
    ـ أعترف لها بالتمثيل السياسي جزئيا فقط.
     
    ـ لا يمكن أن أعترف بالجبهة فعليا.
     
    وما لبث أن أعقب رفض التوزير رفضُ لجنة التنسيق لمبدأ الوساطة ذاته… وقد جاء الرفض على لسان عضوين في اللجنة:
     
    * بوالصوف الذي أدلى بحديث لأسبوعية »فرانس أوبسرفتور« الصادرة في 21 أوت 1958 جاء فيه: »إن دوغول لم يثبت بعد جدارته، بأن يكون شريكا جديا في نظر جبهة التحرير«!
     
    * عباس الذي صرح في 9 سبتمبر الموالي من القاهرة قائلا: »إن عهد الوسطاء قد ولى منذ حادثة اختطاف طائرة القادة الجزائريين… نريد الحديث إلى شخصية فرنسية رسمية مفوضة«
     
    وفي 16 سبتمبر استقبل دوغول الثنائي فارس وعمروش ثانية، وكان على علم بتأهب جبهة التحرير للإعلان عن ميلاد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، فاعتبر هذا القرار »دليلا آخر على عدم الاستعداد للحوار، الأمر الذي لا يساعد على تذليل الصعاب التي تواجهنا« حسب قوله.
     
    وفي اليوم الموالي تسلم الثنائي رسالة من ڤي مولي (الوزير في حكومة دوغول) من جورج بومبيدو باسم دوغول، تتضمن دعوة لجنة التنسيق إلى »إيفاد مندوب عنها -أو أكثر- إلى باريس«!
     
    وكانت المقابلة الأخيرة مع الرئيس الفرنسي في 9 أكتوبر 1958، لتبليغه جواب الحكومة المؤقتة عن الدعوة آنفة الذكر… وحمل الجواب المحرر بالقاهرة في 30 سبتمبر الماضي ما يلي: »نحن على استعداد للجلوس في أي وقت إلى ممثلي الحكوم الفرنسية.. لكن لأسباب واضحة لا يمكن لهذا اللقاء أن يعقد فوق التراب الفرنسي«
     
     
     
    طلاق … بعد »مولان«
     
    مثل هذه المواقف والتطورات تشير بوضوح إلى تبخر الآمال التي كان الكاتب يعلقها على الجنرال العائد إلى الحكم، لإيجاد حل سريع للقضية الجزائرية، ووقف ويلات الحرب، والتخفيف من معاناة الشعب الجزائري تبعا لذلك.
     
    وبعد التحرير قليلا من »مهمة الوساطة« وقيودها عاد ليعبر عن موقفه بكل وضوح، مقترحا في 11 ديسمبر من نفس السنة »قاعدة لحل ديمقراطي« على أساسين:
     
    1 ـ الاعتراف بحق الشعب الجزائري في الاستقلال،
     
    2 ـ إجراء استفتاء كاختيار لا بد منه.
     
     
     
    بعد سنة من عودة الجنرال دوغول إلى الحكم بدأ جان عمروش يشك في الرهان عليه، لإيجاد حل سريع للقضية الجزائرية، وقد عبر عن ذلك في مقال بتاريخ 28 يونيو 1959. يحمل عنوانه إيحاءات واضحة: »هل أن دوغول ما يزال دوغول؟! «
     
    وأكدت نفس السنة انزعاج حاشية الرئيس الفرنسي لتحركاته ومواقفه، وتجسد ذلك في طرده من إذاعة فرنسا في نوفمبر بأمر من الوزير الأول ميشال دوبري شخصيا، وفي 10 أكتوبر 1960 عبر عن طلاقه وخيبته بطريقة محتشمة، في مشروع رسالة إلى الجنرال دوغول يقول فيها: »استسمحكم في استعادة حريتي بعد فشل محادثات مولان (أواخر يونيو).
     
    لم يعد بإمكاني أن أزكي سياسة تختلف نواياها المعلنة عن ممارستها الفعلية!!
     
    وقبيل مفاوضات إيفيان الأولى كتب إلى المحامي المغربي الهاشمي الشريف في 3 ماوي 1961 مشروع رسالة كذلك، يعلن فيها نهاية مهمته بتحقيق الهدف الذي كان يسعى في سبيله: الاعتراف بحق الجزائر في الاستقلال، وفتح مفاوضات بلا قيد ولا شرط« مضيفا أنه »لا يطمح لتبؤ أي منصب في الجمهورية الجزائرية«.
     
     
     
    (*) هم آيت أحمد، بن بلة، بوضياف، خيضر، لم يكن بيطاط قد ألحق بهم بعد.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!