جزائر جديدة دون فساد؟
بإعلان رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون عن التحضير لمخطط جديد للإنعاش الاقتصادي في مرحلة ما بعد كورونا، يطفو هاجس الفساد إلى الأذهان من جديد، وهو الذي لم يبرح ذاكرة الجزائريين الذين يعيشون يوميّا – منذ شهور – على وقع الفضائح المزلزلة لتلك الأرقام الفلكية، لاختلاسات وامتيازات وقروض نخرت الخزينة العمومية، من دون أن تحقق قيمة مضافة لاقتصادنا المتعثّر، بل إنها ضيَّعت على البلاد والعباد فرصة حقيقية للتنمية، بفعل الفساد المالي السياسي.
إنّ ظاهرة الفساد صارت اليوم من متلازمات الاقتصاد، حيث تعاني منه جميع دول العالم النامي والمتقدِّم، على حد سواء، وإن اختلف حجمه وآثاره، ما جعله معضلة معقّدة ومتشابكة، مع تنامي الاندماج العالمي، تؤرق مخططي وصناع السياسة الاقتصادية، وهو ما يفرض التفكير الوقائي قبل الشروع في تنفيذها، حتى لا يذهب المال العام هدرًا، ويتحوّل مرّة أخرى دُولةً بين أذرع الأوليغارشيّة، وبوساطته تقفز إلى مواقع القرار السياسي قبل أن تبتلع الدولة بكل مؤسساتها.
لا ننسى أبدا أنّ الجزائر اعتمدت في العهد السابق، أربعة مخططات لدعم الإنعاش الاقتصادي، حيث جاء المخطط الأول ما بين 2001 و2004 بقيمة 10 ملايير دولار، والمخطط الثاني الخماسي ما بين 2005 و2009 بمبلغ 200 مليار دولار، ثم مخطط خماسي ثالث ما بين 2010 و2014 بـ286 مليار دولار، وأخيرا 262 مليار دولار إلى غاية 2019، لكنها فشلت جميعا في بناء اقتصادٍ عصري متوازن ومتنوع الموارد، والسبب الأبرز برأي الخبراء، هو تغوّل آفة الفساد، ناهيك عن ضعف آليات المتابعة الصارمة والناجعة في تنفيذ السياسات العمومية.
وبذلك عاشت الجزائر خلال العشريّة الأخيرة، من حيث الحجم والعمق والكلفة الماليّة، أسوأ آفة فساد بشمال إفريقيا في تاريخ المنطقة، بغضّ النظر عن تصنيف منظمة الشفافية الدولية الذي وضعها في المركز 106 ضمن مؤشر الفساد العالمي لسنة 2019، برصيد 35 نقطة.
لا شكّ أن الأسباب التي أدت إلى استفحال الفساد في الجزائر لا ترتبط فقط بمظاهر التفكُّك المؤسساتي للدولة منذ مرض الرئيس السابق، بل إنها ناجمةٌ كذلك عن ضعف الآليات الرقابية في المستويات القانونية والبرلمانية والسياسية والمجتمعية، أمام حجم الإنفاق العمومي الطائل بمئات الملايير من الدولارات، وفي سيّاقات اجتماعية وتنموية ضاغطة.
في المسار الجديد هناك عدّة عوامل ربّما تبعث نوعًا من الاطمئنان، لكنها تبقى بحاجةٍ إلى دعم أكبر، وأوّلها توفّر الإرادة العليا الواضحة في القضاء على جيوب الفساد، مع شحٍّ عسير في الموارد يفرض على الدولة التشدّد في إدارة المال العام، وتزامن الاستعداد الحكومي لإطلاق مخطط الإنعاش الاقتصادي مع التحضير الجاري على قدمٍ وساقٍ لترسيم “الإستراتيجية الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته”، والمزمع الكشف عنها يوم 9 ديسمبر المقبل، أي بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، وهذا ما يؤكد إدراك السلطات لأهمية تعزيز المنظومة الوقائية والعلاجيّة كشرط أساسي لنجاة مخططاتها الاقتصادية من مخالب الفساد، وتجسيدها على أرض الواقع.
في اجتماعه الأخير بمجلس الوزراء، شدّد رئيس الجمهورية على الإصلاح البنكي والجبائي والجمركي، وتشجيع الصيرفة الإسلامية والتحكُّم في الواردات، والعمل على استرجاع الأموال الموجودة في السوق الموازية، كحلولٍ إجرائية لتوفير موارد ماليّة مهمّة في تحريك عجلة الاقتصاد ضمن سياق عام صعب للغاية، وهي بلا شكّ رؤية تقنيّة تنطلق من تقييم واقعي لوضعية القطاع المالي في الجزائر.
لكن يبقى الأمر الجوهري والضروري، حتّى نتوجَّه اليوم بأمان ونجاعة إلى برنامج وطني جديد لتنشيط الإنتاجية الاقتصادية، هو تثبيت أركان دولة القانون، كمفهوم دستوري متعارف عليه وفق المعايير الدولية،
القائمة على مبادئ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء، وتفعيل شفافية الدولة، وخضوع تصرُّفات السلطة السياسيّة لسلطان القانون، والتعامل مع المجتمع المدني بصفته شريكا للدولة ورقيبًا على مؤسَّساتها، لأنّ ذلك هو الضمانة الوحيدة لتحقيق النتائج التنمويّة المرجوّة.
وعليه، فلا مناصّ من تكريس استقلالية العدالة والحماية الشاملة للقضاة، وتفعيل كافة الأجهزة الرقابية الرسميّة المستقلّة، زيادة على تعديل القوانين في اتجاه الصّوْن الصارم للمال العام وتشديد العقوبات في حق الفساد، مع تطهير المجالس البرلمانية والمحليّة، عبر انتخابات نظيفة، وفسح المجال واسعا للمجتمع المدني والإعلام في ممارسة الرقابة دون قيود.