-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جلال الطَلَباني يتحدث من قبره

جلال الطَلَباني يتحدث من قبره

هذا مقال للكاتب كمال خلف الطويل، أقدمه للعبرة والعظة بدون أن أضيف كلمة أخرى، باستثناء تعليقات سريعة بين أقواس.

صدرت مذكّرات الرئيس العراقي الأسبق، جلال الطالباني، ولم تُثِر ما كان يجب أن تثيره من ردود ومساجلات وآراء ومناقشات.

كنا نقرأ اسمَه هكذا: جلال الطَالْباني، لكننا كنا نسمع لفظه هكذا: جلال الطَلَبَاني. وعرفنا أن هناك عشائر كردية كثيرة تعرّبت في إحدى فترات التاريخ، مثل آل جنبلاط والمرعبي والأيوبي، وأن هناك عربًا تكرّدوا مثل آل الحيدري والطالباني والبارزاني والحفيد والجاف وغيرهم كثر. إذاً فإن مام جلال كردي من جذور عربية) وهذه نقطة بالغة الأهمية يجب أن نتذكرها في المغرب العربي، وفي الجزائر على وجه الخصوص)

وفي بداية اكتشافنا المشكلة الكردية في مطالع السبعينيات من القرن الماضي، ثم مع ظهور الاتحاد الوطني الكردستاني في سنة 1975، كنا نميل إلى جلال الطالباني لا إلى البارزاني، ربما ليساريته، ولأنه أقلّ تعصبًا إثنيًا، ولأنه انشقّ عن الملا مصطفى البارزاني الذي، وإن كنتُ أعرف مكانته بين أكراد العراق وموقعه في تاريخ الحركة الوطنية الكردية، لم أكن أُطيقه ألبتة بعدما شاهدتُ صورته ومعه شمس الدين المفتي ومحمود عثمان في مطار بن غوريون في سنة 1968، فيما الأعلام الإسرائيلية تحفّ به وتخفق من حوله، وكانت جروح هزيمة يونيو/ حزيران 1967 ما برحت نازفة.

أما الطالباني فكان يبدو واحدا من النخب المدينية المتعلّمة الذي يعرف ما تعني التسويات والحلول الوسط، خلافًا للبارزاني.

وكان الطالباني قادرًا على شَبْكِ علاقات مع العراق وإيران وتركيا وسورية وبريطانيا والولايات المتحدة في وقت واحد. وتمكّن ببراعته من أن ينسج صلات وثقى مع معمّر القذافي وحافظ الأسد وصدّام حسين وسليمان ديميريل وتورغوت أوزال وعبد الله أوجلان، كأنه يريد أن يراهن على “جميع الجياد” المشاركة في السباق؛ فلا بد من أن يفوز أحدها في النهاية (وهذه نقطة أخرى لا يجب أن تُنسى)

وفي هذا الميدان يقول إن الملا مصطفى البارزاني عقد مقابلتين متتاليتين مع صحافي أميركي وصحافي روسي في فترة واحدة، فقال للصحافي الأميركي إنه يتطلع إلى جعل كردستان الولاية الأميركية الحادية والخمسين، وقال للصحافي الروسي إنه مستعد لجعل كردستان الجمهورية السوفييتية السادسة عشرة (انظر: جوناثان راندل، أمة في شقاق، بيروت: دار النهار، 1997، ترجمة فادي حمود، ص 437 الهامش 42).

وصاغ دافيد بن غوريون (مؤسس إسرائيل) استراتيجية دول المحيط بعد العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956. ومن ثوابت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي المشتقة من “سياسة المحيط” هو إبعاد العراق عن الصراع العربي – الصهيوني.

وكانت إسرائيل تسعى بقوة إلى إعاقة الجيش العراقي عن تقديم أي دعم متوقع إلى سورية والأردن في أي حرب مقبلة.

وكانت إيران تعمل على إلهاء الجيش العراقي وإبعاده عن “شط العرب” وعن منطقة الأحواز الغنية بالنفط والمياه (راجع: جوناثان راندل، أمة في شقاق، مصدر سبق ذكره، ص 247). وجرى تأسيس منظمة خاصة في سنة 1958 لهذا الهدف هي “ترايدنت” التي ضمّت قادة الأجهزة الاستخبارية لإسرائيل وتركيا وإيران، وكانت غايتها مواجهة الحركة القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر والحركة الشيوعية في الوقت نفسه.

ووجدت الأجهزة الاستخبارية للدول الثلاث أن أفضل مَن يقوم بمهمة إلهاء الجيش العراقي وإبعاده عن الجبهة الشرقية هو مصطفى البارزاني ومجموعاته القتالية.

وفي هذه المذكرات تجاهل جلال الطالباني حكاية التعاون البارزاني – الإسرائيلي الذي بدأ في سنة 1951، ومرّ به مرورًا مواربًا وخجولاً بقوله: “تبيّن بأن الملا مصطفى قد أصبح متورطًا في علاقات مع إيران وإسرائيل وأميركا، وكانت الزيارة التي قام بها الدكتور محمد عثمان وإدريس البارزاني إلى أميركا ولقاؤهما رئيس المخابرات الأميركية سبباً في برودة علاقتنا مع الملا مصطفى” (ص 276). والثابت تاريخيًا ووثائقيًا أن رؤوفين شيلوّاح، وهو أول مدير للموساد (1951) كان أول من عقد صلات بالأكراد من أنصار البارزاني، وهؤلاء كانوا قد ساهموا مساهمة فاعلة في تهريب يهود العراق إلى إسرائيل في سنة 1950.

وفي 1963، سافر إبراهيم أحمد، الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو والد هيرو زوجة جلال الطالباني، إلى باريس مبعوثًا من البارزاني ليلتقي ميناحيم نافوت (مندي) والسفير الإسرائيلي والتر إيتان.

ومنذ ذلك اللقاء، بدأت المساعدات (الإسرائيلية) تتدفق على البارزاني كالأسلحة والذخائر والتدريب العسكري وإرسال المستشارين والخبراء الزراعيين والأطباء علاوة على إقامة مستشفى ميداني.

وتولى يعقوب نمرودي (الملحق العسكري الإسرائيلي في طهران) منذ سنة 1965 نقل الأسلحة إلى جماعة البارزاني عبر مطار طهران. وأسّس الموساد في سنة 1966 جهاز الاستخبارات الكردي (الباراستين)، وتولى قيادة الجهاز مسعود البارزاني الذي خضع لدوراتٍ استخبارية في شمال العراق وفي إسرائيل (انظر، جوناثان راندل، مصدر سبق ذكره، ص 251-253).

وكان عصمت شريف وانلي زار إسرائيل في سنة 1964 والتقى يعقوب هيرتزوغ المدير العام لوزارة الخارجية وشمعون بيريز وليفي أشكول.

وساعد الملا مصطفى البارزاني الموساد في تأمين فرار الطيار العراقي منير روفا إلى إسرائيل بطائرة الميغ 21 في سنة 1966، وكان العقيد أوري ساغي مقيمًا في شمال العراق منذ سنة 1966، وكان يتردد على المنطقة الكردية من بين رجال الموساد مئير عميت وتسفي زامير ودافيد كيمحي وحاييم لافكوف وغيرهم.

وبسبب هذه العلاقة الوثيقة نظّم النادي العسكري في تل أبيب في نيسان/ أبريل 1979 حفلاً تأبينيًا لمصطفى البارزاني حضره يتسحاق رابين ورئيسا الموساد السابق والحالي وعدد من ضباط الاستخبارات. وكان البارزاني توفي بسرطان الرئة في 1/3/1979 في مستشفى جورجتاون بواشنطن (جوناثان راندل، مصدر سبق ذكره، ص 243).

ويُخبرنا جلال الطالباني في مذكّراته أنه التقى الرئيس الليبي معمّر القذافي في عام 1975 فأخبره أن وزير خارجية العراق آنذاك، سعدون حمادي، التقى نظيره الإيراني عباس خلعتبري في إسطنبول، وأن الاتفاق بين العراق وإيران بات وشيكًا، وعلى الأكراد الاستعداد للمرحلة الجديدة. وبالفعل وُقّع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران في 6/3/1975، فانهارت التشكيلات العسكرية الكردية التي كانت تقاتل الدولة العراقية في كردستان العراق بدعمٍ مكشوف من الشاه، وازداد انهيارها بعد إعلان الملا مصطفى البارزاني في 19/3/1975 حلّ جميع تشكيلاته العسكرية، والطلب من أعضاء حزبه العودة إلى العراق أو التوجّه إلى إيران.

حينذاك، رفض الطالباني هذا الأمر، وبادر مع مجموعة من رفاقه إلى تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني، وأُعلن البيان التأسيسي للاتحاد في مؤتمر صحافي عُقد في مقهى طليطلة بدمشق في 22/5/1975 (ص 327). وتلقى الاتحاد الدعم المالي والعسكري والسياسي من سورية وليبيا.

وتكشف المذكرات بلسان الطالباني أن مصطفى جمران استولى على كميات كبيرة من الأسلحة التي أُرسلت إلى الاتحاد الوطني الكردستاني عبر سورية (ص 536)، وأن الرئيس السوري حافظ الأسد قدّم له في إحدى المرّات مائتي قطعة سلاح أُرسلت بالجو إلى إيران، فصادرها مصطفى جمران وقال للطالباني إنه منحها للباسدران الذين يقاتلون الجيش العراقي مثلكم (الباسدران تعني حرس الثورة الإسلامية).

ودعم القذافي الاتحاد الوطني الكردستاني بالمال والسلاح، لكن الباسدران صادر السلاح.

وتكشف المذكّرات أن الطالباني هو من عرّف الإمام الخميني إلى الليبيين، وكانت النتيجة أن ليبيا أمدّت حركة الخميني بملايين الدولارات (ص 534).

ومع ذلك، لم يتردّد الطالباني في التنديد بأعمال الخميني وإجراءاته ضد الشعب الكردي في إيران، وأعلن بجرأة: يجب ألا ننسى أن هذه الأعمال والإجراءات هي من طبيعة المذهب الذي يدين به الخميني والدين الذي آمن به (ص 567).

لكن مام جلال تجاهل اغتيال عبد الرحمن قاسملو في فيينا في 13/7/1989 ربما لأن المتهم بتنفيذ هذه العملية هو محمود أحمدي نجاد الذي صار رئيسًا لإيران في سنة 2005.

خلاصة الكلام

أثارت مذكرات جلال الطالباني مواجع كثيرة في شأن العراق وأحواله. وهذه المواجع المتشعبة يمكن تكثيفها في نهاية المطاف بالكلام التالي: ليست القضية الكردية قضية الأكراد وحدهم، بل هي قضيتنا أيضًا كعرب، ولا يصدر هذا الكلام من باب التضامن وحده، بل من باب الواقع والواقعية السياسية والمصير المشترك.

ففي المؤتمر السنوي لمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في تل أبيب في 29/9/2014 وقف بنيامين نتنياهو ليقول: إن لإسرائيل مصلحة في قيام دولة كردية. وكرر نتنياهو موقفه هذا بصيغة أخرى في 13/9/2017 حين أعلن أن إسرائيل تدعم قيام دولة كردية. وكانت وزيرة العدل في إسرائيل، إيليت شاكيد، أكثر وضوحًا عندما صرّحت في مؤتمر للأمن القومي الإسرائيلي في يناير/ كانون الثاني 2016 إن من شأن قيام دولة كردية أن يفصل إيران عن تركيا، وأن يساعد إسرائيل في تعزيز أمنها القومي.

وفي خضم الأوهام القومية المنفوخة لدى بعض الأكراد مثل خريطة كردستان العظمى التي تمتد من إيران إلى البحر المتوسط شاملة في طريقها أراضيَ من سورية وروسيا وأرمينيا وتركيا، نفتقد حقًا رجلاً من طراز مام جلال الذي طالما تمتّع بالحكمة والبصيرة معًا، وكان دائمًا يرفض الانفصال، لأنه رآه وبالًا على الكرد لا حلاً لمشكلاتهم.

وما أخشاه أن يُقدّم الأميركيون رأس الكرد على طبقٍ من خشب إلى إيران وتركيا، كما قدّم هيرودوس رأس يوحنا المعمدان إلى سالومي ابنة هيروديا.

(والسؤال : هل يتعظون؟)

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!