-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جنوب إفريقيا.. موعدٌ مع التاريخ

ناصر حمدادوش
  • 761
  • 0
جنوب إفريقيا.. موعدٌ مع التاريخ

في خطوةٍ تاريخيةٍ نادرة، وفي لحظةٍ استثنائيةٍ فريدة، وفي صرخةٍ قانونيةٍ لم تسبقها إليها أيُّ دولةٍ في العالم، لم ينتظرها أحدٌ بهذه الجرأة والشجاعة، تسجِّل جنوب إفريقيا خطوةً هامةً على طريق إيقاف الكيان الصُّهيوني على قدمٍ واحدة، ووضعه – ولأول مرة – في تاريخه أمام المحاكمة على جرائمه وعنصريته ودمويته، وهي المقاضاة ذات الرمزيات العابرة للقارات، والدلالات القضائية والقانونية العابرة للحدود، من دولةٍ في أقصى الأرض من جنوبها، وهي التي انتصرت على التمييز العنصري والإبادة الجماعية بكلِّ جدارةٍ واستحقاق.

فلا يخفى بأنَّ هذه الدعوى التي أسَّست لدى جنوب إفريقيا مدفوعةٌ بأسبابٍ تاريخية، فالحزب الحاكم فيها يؤمن – عقيدةً – بأنه هناك رابطٌ بين دعمه للقضية الفلسطينية وبين كفاحه التاريخي ضدَّ حكومة التمييز العنصري التي كانت لها علاقاتٌ مع إسرائيل، وهو ما كان يردِّده الزعيم “نيلسون مانديلا” دائمًا بأنَّ حرية جنوب إفريقيا لن تكتمل دون حرية الشعب الفلسطيني، وهو ما أكَّده رئيس جنوب إفريقيا الحالي بقوله: إنَّ تعاليم “مانديلا” ألْهَمت التحرُّك القضائي الأخير، معتبرًا المسألة قضية مبدأ.

وفي الوقت الذي نامت فيه إسرائيل في عسل فوقيتها على القانون، وراهنت على أنه لا يوجد في هذا الكون مَن يحاسبها على جرائمها، وهي التي تستند إلى حبلٍ من الناس أمريكيًّا، إذْ تشير إحصاءاتٌ إلى وقوع أكثر من 100 مجزرة كبرى منذ عام 1947م تتوفَّر فيها أركان جرائم الحرب والجرائم ضدَّ الإنسانية والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، ومع ذلك فإن هذا الكيان النازي مطمئنٌ في دائرة الأمان والإفلات من العقاب طيلة 75 سنة، إلى غاية هذا الموعد مع التاريخ.

إنَّ مجرد إقدام جنوب إفريقيا على محاكمة إسرائيل هي في حدِّ ذاتها كتابةٌ للتاريخ بأحرفٍ من العزِّ والفخار، وسيسجِّل الأحرار في العالم ذلك على صفحاتٍ مشرقةٍ على درب الحقيقة المغيَّبة، وهي المرة الأولى التي تتجرَّأ فيها دولةٌ على هذا الكيان العنصري المغرور بالعلو الكبير للصهيونية العالمية، ستضطرُّ فيها إسرائيل – صاغرةً – للوقوف أمام المقاضاة العالمية، وفق قرارات الشرعية الدولية التي صاغتها بنفسها على خلفية مظلوميتها المزعومة بتعرُّض الشعب اليهودية للإبادة الجماعية على يد “هتلر” خلال الحرب العالمية الثانية، وبالتالي، فهي صفعةٌ مذلَّة على جبين الاحتلال الصُّهيوني وحكومته المتطرِّفة، والذي لم يعامل بهذه الندية والسيادية من قبل.

ففي 21 نوفمبر 2023م، كانت له قرصة الأُذُن السياسية، حيث علَّقت جنوب إفريقيا علاقاتها الديبلوماسية مع إسرائيل، على خلفية همجيتها المجنونة في حربها الفاشية على قطاع غزة، دون مراعاة التناسب في القوة، في ردَّ فعلها على معركة “طوفان الأقصى” يوم 07 أكتوبر 2023م، بعد أن سحبت سفيرها لدى هذا الكيان العنصري، للتشاور حول ما يشهده الشعب الفلسطيني من الكارثة الإنسانية غير المسبوقة.

والحقيقة أنه لا توجد دولةٌ في العالم تعرف سُمَّ “التمييز العنصري” و”الإبادة الجماعية” كما تعرفها جنوب إفريقيا، التي انضمت إلى اتفاقية الإبادة الجماعية الموقَّع عليها من طرف 153 دولة سنة 1948م، بما فيها إسرائيل، التي تعتقد أن هذه الاتفاقية صُمِّمت بنودها وسُطِّرت أحكامها على حصرية الضحايا اليهود فقط.

وتُعرَّف “الإبادة الجماعية” بأنها أيُّ فعلٍ يُرتكب بقصد التدمير، كليًا أو جزئيًا، لجماعةٍ قوميةٍ أو إثنيةٍ أو عنصريةٍ أو دينيةٍ معينة، وتشمل تلك الأفعال: قتل أفراد الجماعة، وإلحاق الأذى الجسدي أو العقلي الجسيم بهم، وتدمير ظروفهم المعيشية بهدف اجتثاثهم

وفي يوم الجمعة 29 ديسمبر 2023م قالت محكمة العدل الدولية إنها تلقَّت طلبًا من “جنوب إفريقيا” لرفع دعوى قضائية ضدَّ إسرائيل لانتهاكها اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وأنها “قامت بأفعالٍ تهدف للتطهير العرقي في غزة”، على اعتبار أنَّ محكمة العدل الدولية هي أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، وأن إسرائيل موقِّعة على هذه الاتفاقية، وهي ملزمة بالخضوع لها.

وقد بدأت هذه المحاكمة التاريخية يوم الخميس 11 جانفي 2024م، بمذكرةٍ في 84 صفحة، اعتبرها متخصصون في القانون الدولي أنها دعوى مُحْكمةٌ في صياغتها، دقيقةٌ في مراجعها، والتي كانت محاكمةً عالميةً احترافيةً بامتياز، طالبت فيها “جنوب إفريقيا” إصدار أوامر عدة، منها: “تعليق إسرائيل هجماتها على قطاع غزة فورًا، ووضع حدٍّ للتهجير القسري، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية، والمحافظة على الأدلة.

يدرك العالم بأن استقلالية قضاة المحكمة من الناحية النظرية، بعيدًا عن الخلفيات السياسية للدول التي ينتمون إليها، وأنه هناك محدوديةٌ في العدالة الدولية، وعدم فاعليتها تتطلب إرادة حقيقية، قد لا تكون متوفِّرة كما تتطلبها الحقيقة، وبالتالي فإن قراراتها قد تكون ذاتِ دلالات رمزية فقط، لا ترقى إلى مستوى الإدانة المباشر بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، ولا تصل إلى درجة المطالبة بالوقف الفوري لهذه الجرائم، ولا تكون مرضية للشعب الفلسطيني الذي لا يزال يتعرَّض لكل أشكال انتهاك القانون الدولي الإنساني. ومع الخطوات التي اتخذتها المحكمة ستذكِّر العالم بأنَّ الدول مسؤولةٌ عن جرائمها، وأنه مهما كانت التوازنات السياسية للإجراءات القضائية فإن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، كما لم تسقط جرائم “الهولوكوست” المزعومة لليهود، وهو ما يعني أن قطار إدانة إسرائيل، وإخضاعها للمساءلة والمحاسبة والمعاقبة قد انطلق.

ومع إقرار الجميع بأن هذه المحكمة لا تملك السلطة التنفيذية لتطبيق أحكامها القضائية، إذ أنها تندرج ضمن الاختصاص لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو المجلس المشلول بحق “الفيتو” الذي تدمن عليه أمريكا في حماية هذا الكيان، إلا أن هذه المحاكمة قد حققت بعض الأهداف في دلالاتها ورمزياتها، مثل: تهشيم تلك الصورة المثالية الخادعة لهذا الكيان الفاشي، بما ألحق الضرَّر بسمعته الموهومة لدى الغرب، ولدى المطبِّعين من العرب، ولدى الرأي العام العالمي، وقد تؤدي إلى إعادة حساباته مستقبلاً، وهو يغرق يوميًّا في وَحل عزلته الدولية، ويدفع نحو مقاطعته أو فرض عقوبات عليه أو تهديد مصالحه.

قد يشعر البعض بخيبة الأمل فيما تم اتخاذها من إجراءات، والتي تمثِّل انتصارًا ديبلوماسيًّا القضية الفلسطينية فقط، ومع ذلك، فإنَّ مجرد انعقاد هذه المحاكمة وقبولها النظر في هذه الجرائم ستضرُّ بمستقبل هذا العدو الصهيوني، باعتبارها سابقة قانونية في تاريخه، وستمثُّل أملاً في إدانته ومحاصرته وتعريته.

إن جرأة جنوب إفريقيا على محاكمة إسرائيل، وإخضاعها للمحاسبة القضائية أمام العالم هي في حدِّ ذاتها مشكلةٌ ذاتِ قيمةٍ حقيقية تواجه المستقبل الوجودي لإسرائيل.

لا شكَّ بأن هناك وجهاتُ نظرٍ سياسية وتاريخية وقانونية، فيما تمت المرافعة عليه، وفيما تم اتخاذها من تدابير احترازية، فاستخدام ممثلي “جنوب إفريقيا” عبارة “النكبة المستمرة منذ عام 1948م”، هي إشارةٌ إلى النضال الذي يخوضه الشعب الفلسطيني، وأنه لم ينطلق يوم 07 أكتوبر 2023م، كما تبرِّر به “إسرائيل” مجازرها المروِّعة وجرائمها الفظيعة، وأنَّ اللغة القانونية الدقيقة والمرافعة الاحترافية برزت في مقدمة البيانات المتعلقة بعنصر النية، الذي يجب أن يتوفر للاعتراف بوقوع “جريمة الإبادة الجماعية”، بالاعتماد على الرصد الدقيق لتصريحات رؤوس الإجرام في هذا الكيان النازي، والتي تؤكد على وجود النية لتدمير مجموعةٍ بشريةٍ معينة، بما يثبت المخاطر القانونية المنبثقة عن الهجمات الإسرائيلية، وأنها سياسةُ دولةٍ ممنهجة، وبالتالي فرض ذلك وجوب تأسيس المحاكمة وإصدار الأوامر القضائية في ذلك، وكانت أبرز تلك التصريحات ما يدلُّ على تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم ووصفهم بالحيوانات البشرية، بما صرَّح وزير الحرب الصهيوني “غالانت” يوم 09 أكتوبر 2023م بقوله: “نفرض حصارًا كاملاً على غزة، لا كهرباء، ولا طعام، ولا ماء، ولا وقود، كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية، ونتصرف وفقا لذلك”.

من غباء دفاع الكيان الصهيوني، والذي كان مرتبكًا ومفضوحًا، هو الإشارة إلى “المحرقة” النازية على يد هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، والتأكيد على أنَّ الشعب اليهودي يدرك تمامًا سبب صياغة اتفاقية الإبادة الجماعية، وأنَّ القتل الممنهج لستة ملايين يهودي محفورةٌ في الذاكرة الجماعية، ويجب فهم الإبادة الجماعية على أنها جريمةٌ ضيِّقة النطاق، لا يمكن أن يكون ضحاياها إلا اليهود. وهذه في حدِّ ذاتها عنصريةٌ مفضوحة ونظرةٌ استعلائية لهؤلاء الصهاينة، بما يثبت أن الصهيونية هي حركةٌ عنصريةٌ بالأساس، وأنَّ ما يقوم به هذا الكيان الصهيوني هو النسخة الأسوأ من النازية، بما يتمتع به من التشبُّع بثقافة التوحُّش والإرهاب منذ تأسيسه سنة 1948م.

كانت جنوب إفريقيا – إذن – على موعدٍ مع التاريخ بكلِّ سيادية واستقلالية وقناعةٍ مبدئية، واضعةً الأخلاق والقيم الإنسانية فوق كلِّ اعتبار، وهو ما يجعلها تدخل هذا التاريخ المشرِّف في نصرة القضايا العادلة، وتفعل ما لم تفعله الدول الأقرب إلى هذه القضية المقدَّسة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!