-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جنونُ الاحتيال في النشر العلمي!

جنونُ الاحتيال في النشر العلمي!

تمرّ منشورات البحث العلمي في العالم بمرحلة من التلوث والاحتيال والسرقات فاقت كل التصورات، أدت إلى انهيار الوازع الأخلاقي في هذا المجال؛ ففي وقت ليس ببعيد انتشرت في سوق النشر “الأكاديمي” فئة من المجلات تطلب مقابلا ماليا على كل بحث منشور تزعم أن ذلك المبلغ يذهب إلى جيوب المحكّمين حتى يسرعوا في إنجاز مهمتهم، ومن ثم يتم نشر البحث في غضون أسابيع.

والواقع أن تلك المجلات لا تُخضِع الأبحاث للتحكيم، إذ يكفي أن يقوم فردٌ واحد بهذا النصب: يعلن في يوم من الأيام عبر الانترنت وعناوين عدد كبير من الباحثين في شتى جامعات العالم إصدارَ مجلة إلكترونية، ويختار لها عنوانا أكاديميا جذابا ليصطاد به المتعطشين إلى إثراء سيرتهم العلمية من أجل الترقيات. وعندما يصله أي بحث من هؤلاء، ينشره على موقع مجلته بمجرد استلامه المبلغ المالي من المؤلف.

استنساخ المجلات

وقد كُشف أمر عشرات، بل مئات، المجلات من هذا القبيل. لكن هذا لم يردع إصدار مثل هذه المجلات التي لا تعلن في موقعها أنها ستطلب مقابلا ماليا كشرط للنشر، بل تعلنه في برقية خاصة توجِّهها مباشرة لكل مؤلف يرسل إليها بحثا.

ثم تطوّر التحايلُ بعد الحذر الذي صار يتحلى به الكثير من الباحثين. لقد ظهرت طريقة تحايل أخرى يقوم من خلالها فردٌ بإصدار مجلة إلكترونية يتطابق اسمها وموقعها مع موقع مجلة أكاديمية مرموقة ذائعة الصيت، فينخدع الباحثون ويرسلون إليها بحوثهم وهم يعتقدون أنهم يتعاملون مع المجلة الجادة التي تحمل العنوان ذاته. وبعد فترة، يجني المحتال المبالغ المطلوبة التي دفعها عددٌ من المؤلفين الضحايا، وتُنشر أبحاثهم على موقع المجلة الوهمية؛ وإذا ما شعر المحتال بأن مجلته قد انكشف أمرُها على نطاق واسع، يزيل موقعها من شبكة الانترنت ولا يترك أثرا لما تم نشره فيها. وليس من المستبعد أبدا أن يعيد المحتال عملية النصب ذاتها باختيار عنوان مجلةٍ مرموقة أخرى واستنساخها بالكيفية السابقة نفسها.

الواقع أن تلك المجلات لا تُخضِع الأبحاث للتحكيم، إذ يكفي أن يقوم فردٌ واحد بهذا النصب: يعلن في يوم من الأيام عبر الانترنت وعناوين عدد كبير من الباحثين في شتى جامعات العالم إصدارَ مجلة إلكترونية، ويختار لها عنوانا أكاديميا جذابا ليصطاد به المتعطشين إلى إثراء سيرتهم العلمية من أجل الترقيات. وعندما يصله أي بحث من هؤلاء، ينشره على موقع مجلته بمجرد استلامه المبلغ المالي من المؤلف.

وآخر صيحة في هذا النوع من التحايل وكسب المال الحرام من منشورات البحوث العلمية، أنه يُعرض عليك حيث أنت بحثٌ غير مكتمل، يُزعم أنه قيد الإنجاز من قِبل مؤلفيه، ويُطلب منك الإسهام في إنجازه كمؤلف ليظهر اسمُك في البحث، علما أن نشره سيكون في مجلة ذائعة الصيت! يغريك العرض –سواء لأنك باحثٌ قدير أو لأنك باحث فاشل تبحث عن ترقيات لا تستحقّها- وتطلب المشاركة. حينئذ يُطلب منك دفعُ مبلغ مقابل ذلك. وفي الأخير يُنشر المقال وأنت من مؤلفيه دون أن تسهم في أي شيء فيه. بمعنى أنك تستطيع من دون القيام بأي جهد أن ترى اسمك كمؤلف في بحث قيّم، يمكنك استغلاله للترقيات الأكاديمية أو لمناقشة رسالتك الجامعية!

ها هو الأسلوب المعتمد من قبل هؤلاء المحتالين: هذه ترجمة حرفية لنص عرض إحدى المنصات المحتالة، عنوانه “شراء مكان في قائمة مؤلفي بحث”، ويشير أصحابه إنهم يستخدمون ثماني لغات يتعاملون بها مع زبائنهم:

“المنصة الدولية للبحث عن المؤلفين المشاركين: توفّر هذه المنصة فرصة للباحثين للعثور على زملاء من أجل العمل العلمي المشترك، ومن ثمّ توسيع الرقعة الجغرافية للبحث، وتثمينه في المجتمع العلمي العالمي. يتم تقديم أكثر من 11 ألف مشروع علمي في مختلف مجالات المعرفة على موقعنا على الإنترنت. ويمكنك المشاركة في أي دراسة معروضة على هذا الموقع. ولتجنُّب استعارة الأفكار من أشخاص غير مشاركين في الدراسة، يتم الكشف عن التفاصيل للمشاركين في الدراسة، دون سواهم. وتتم الإشارة إلى المبلغ المالي المطلوب لتحرير وإجراء الدراسة بشكل منفصل لكل عمل، كما يتم توزيعها بين جميع المشاركين في المشروع. عند الموافقة على المشاركة في المشروع، يدفع الباحث المشارك المبلغ المحدَّد في المساهمة، ويتلقى خطة العمل، ثم يناقشها جميع المشاركين ويصحِّحونها وينفذونها. ويتم نشر نتائج البحث كبحث علمي في المجلات المفهرسة في قواعد بيانات سكوبس  Scopus”.

قمة الاحتيال

عند قراءة هذا النص في موقع من المواقع الإلكترونية، تبدو لك جدية في الطلب والتعاون على إجراء الدراسات بين الباحثين المنتشرين في أرجاء العالم. بينما الواقع هو عملية نصب واحتيال نتيجته أن أي شخص يمكن أن يجد نفسه في قائمة مؤلفي بحثٍ قيّم مقابل دفع مبلغ مالي، وهو لم يسهم فيه بأي جهد.

لقد أدت هذه التجارة الخسيسة إلى كسب ملايين الدولارات من قبل المحتالين، وتفطنت إلى ذلك العديد من الجهات في مجال النشر العلمي، ووضعت مثل هذه الإعلانات تحت المجهر، وصارت موضع تحريات الحريصين على النزاهة في البحث العلمي. بل أقدمت بعض المجلات الجادة على سحب عشرات المنشورات التي تحتوي على روابط مشبوهة بعد أن كشف محققو النزاهة في مجال البحث العلمي عن مئات الإعلانات عبر الإنترنت التي تتيح الفرصة لأي شخص أن يظهر اسمُه كمؤلف في الأبحاث التي سيتمّ نشرها في المجلات ذات السمعة المرموقة.

على سبيل المثال، في جويلية الماضي، سحبت مجلة أكاديمية دولية متخصصة في التكنولوجيات الناشئة 30  بحثا مرتبطا بإعلانات من هذا القبيل. ومن المعلوم أنه يتم نشر معظم الإعلانات المشبوهة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتلغرام، بالإضافة إلى المواقع الإلكترونية الخاصة بالشركات التي تزعم أنها تقدِّم خدمات النشر الأكاديمية.

والملاحَظ أن الإعلان غالبًا ما يتضمن عنوان البحث واسم المجلة التي سيتم نشره فيها وسنة النشر. والأدهى من ذلك أن الإعلان يوضِّح موضع خانات التأليف المتاحة للشراء، فالمبلغ الذي ستدفعه -إن طلبت أن يوضع اسمك كمؤلف- يختلف باختلاف ترتيبه بين المؤلفين الآخرين: من الطبيعي أن المؤلف الذي يظهر اسمه الأول في القائمة سيدفع أكثر ممن يكون اسمه الثاني في القائمة، إلخ. وتتراوح الأسعار –حسب المحققين- بين مئات وآلاف الدولارات للمقال الواحد، وهذا حسب مجال البحث وسمعة المجلة.

ذلك ما جعل الأستاذ فيتالي بيتشارسكيPecharsky  (1954-2022)، رئيس تحرير مجلة “السبائك والمركبات” (Alloys and Compounds) الشهيرة ينتفض عندما لاحظ أن مجلته كانت ضحية لهذا التحايل قائلا قُبيْل وفاته بأيام في ديسمبر الماضي: “كنت أعلم أن الكثير من الأشياء معروضة للبيع، لكن التأليف!؟ إنه جنونٌ حقيقي. هذا غير مقبول أبدا”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!