-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جهود أبو القاسم سعد الله في بناء مدرسة التاريخ الجزائرية  

جهود أبو القاسم سعد الله في بناء مدرسة التاريخ الجزائرية  

يرى الدكتور أبو القاسم سعد الله أن تأسيس المدرسة التاريخية الجزائرية يستوجب تضافر جهود مؤرّخين كثيرين ينتمون إلى أجيال عديدة، لأن عمر الفرد محدود ولو كان من طينة الكبار على غرار أبو القاسم سعد الله. في حين أن “التأسيس” عملٌ ممدود في الزمن يحتاج إلى أعمار كثيرة، ومن ثمّ فباب الاجتهاد والعمل لم يُغلق بعد في نظره، وقال في هذا السياق: «وأملنا أن تخرُج من الجامعة فئة من الباحثين المتمرّسين، والمسلّحين بوسائل العلم والبحث، والمقتنعين بضرورة حمل الرسالة، رسالة كتابة تاريخ الجزائر منذ القديم، من وجهة النظر الوطنية، ولا نعني هنا الوطنية الضيّقة أو الشوفينية، ولكنّنا نعني الكشف عن الذات الجزائرية، وتحديد أبعادها وإبراز مساهمتها في الحضارة الإنسانية عامة، والحضارة العربية الإسلامية خاصة. فمتى يتحقق هذا الأمل؟(مقدمة كتاب الحركة الوطنية الجزائرية، الطبعة الثانية، 2005م، دار الغرب الإسلامي.)

ضياع المصادر الجزائرية

تحدّث الدكتور أبو القاسم سعد الله بألم عن ضياع المصادر الجزائرية الخاصة بالتاريخ الثقافي، بفعل جرائم الاستعمار الفرنسي، إذ تعرّضت المكتبات الخاصة للحرق والنهب أثناء العمليات العسكرية. وذكر أيضا أن العلماء الجزائريين المهاجرين إلى البلاد العربية قد أخذوا معهم بعض مخطوطاتهم، ثم باعها هناك أحفادُهم للمستشرقين بعد أن أصابهم الفقر.

يقول الدكتور سعد الله: “كان هدفي من البحث هو إنتاج عمل يكشف عن مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور. ذلك أن المستعمرين الفرنسيين قد بثّوا طيلة احتلالهم للجزائر بأنه لم يكن لأهلها ماض سياسيّ ولا ثقافي. وزاد إهمالُ الدارسين العرب والمسلمين لتاريخ الجزائر من حرصي على البحث والتنقيب. فالجزائر قد ظلمها أعداؤها وأشقاؤها على السواء.”.

أما المخطوطات المنهوبة من طرف الاستعمار الفرنسي فلا نعرف عنها إلاّ النزر اليسير من خلال ما كتبه الكتّاب الفرنسيون حسب هواهم. ونتيجة لتفرّق المصادر الجزائرية في مكتبات العالم، وخاصة في أوروبا وأمريكا وتركيا ومكتبات العالم العربي، فقد اضطر الدكتور أبو القاسم سعد الله بعد استفادته من المكتبات الخاصة المحلية، إلى زيارة معظم المكتبات العربية في شمال إفريقية والمشرق العربي، ومكتبات الولايات المتحدة الأمريكية التي استفاد منها كثيرا، عن طريق حصوله على منح دراسية كثيرة من الجامعة ووزارة التعليم العالي، مكّنته من الإقامة فيها (أي أمريكا) مع عائلته للبحث والتنقيب والكتابة والتحرير، في ظروف مثالية.

تألّمه من غياب موسوعة تاريخية جزائرية

لقد تألم أبو القاسم سعد الله كثيرا من عدم وجود موسوعة تاريخية جزائرية تملأ الفراغ الرهيب الذي تعاني منه المكتبة الجزائرية، وتكون مصدرا ومرجعا للجزائريين وللأجانب الذين يرغبون في دراسة تاريخنا في شتَّى حقول المعارف والعلوم. كما أنه لم يهضم فكرة وجوب السفر إلى الخارج من أجل دراسة تاريخ الجزائر مثلما حدث له هو شخصيّا، فهذا الواقع الثقافي المرّ هو ببساطة منطقٌ مقلوب ناجم عن الاستعمار الفرنسي الذي نهب مصادرَنا التاريخية كما سبق الذكر، فعزم على إعادته إلى حالته الطبيعية، وهو الأمر الذي جعله يوقف جهوده العلمية من أجل كتابة أكبر عددٍ ممكن من فصول هذه الموسوعة التاريخية الوطنية.

ورغم فتوحاته العلمية الكثيرة المتميّزة التي بوّأته مركز الريادة في الكتابة التاريخية حتى لُقّب بـ”شيخ المؤرخين”، فإنه كان يدرك أن مشروعَه ممدود، وعمرَه محدود، لذلك كان يسابق الزمن، فحرم نفسه وزوجتَه من مباهج الحياة من أجل أن يخطو خطواتٍ عملاقة في مجال الكتابة التاريخية، لأنه اعتبر هذه المهمة الثقافية في مقال نشره سنة 1966م بمثابة جهاد، كما دلّ عنوانه (في الجهاد الثقافي). هذا وقد آلمه أن يرى المكتبة الجزائرية خِلوًا من المراجع التي تنصِّف تاريخنا، وقد زادها ظلمُ الأشقاء وَجْعًا كما قال: «وكان هدفي من البحث هو إنتاج عمل  يكشف عن مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور. ذلك أن المستعمرين الفرنسيين قد بثّوا طيلة احتلالهم للجزائر بأنه لم يكن لأهلها ماض سياسيّ ولا ثقافي. وزاد إهمالُ الدارسين العرب والمسلمين لتاريخ الجزائر من حرصي على البحث والتنقيب. فالجزائر قد ظلمها أعداؤها وأشقاؤها على السواء.» (تاريخ الجزائر الثقافي، ج1، ص.13)

العناية بتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية

هذا وقد باشر الدكتور أبو القاسم سعد الله الكتابة التاريخية عبر بوابة التاريخ السياسيّ، فكتب عن المقاومة الشعبية التي واجهت الاحتلال الفرنسي، وعن الحركة الوطنية التي نال بها شهادة الدكتوراه في أمريكا في ستينيات القرن الماضي، ومن أهداف أطروحته تأكيد وجود مقاومة شعبية على الصعيد الداخلي، وحضور الجزائر على الصعيد الخارجي خلافا لأكاذيب فرنسا، وقال في هذا السياق: “… والوجه الثاني من هذه الأطروحة هو التعريف بالحركة الوطنية داخليا وخارجيا، ومحاولة تطهيرها من الزيف الذي ألصقه بها المستعمِرون. فالدراسة تثبت أن الجزائر لم ترضَ بالاستعمار كما أدّعى بعضهم، وقد استمرّت في نضالها ضد الاحتلال. وأن اتخاذ هذا النضال أشكالا سياسية وعاطفية لا يعني استسلام الجزائر نهائيا. كما أثبتت الأطروحة أن الجزائر لم تكن في عزلة عن العالم؛ فقد ظهر منها أن مهاجري الجزائر قد أثّروا وتأثّروا بكل ما كان يجري في العالم العربي والعالم الإسلامي من الأحداث، كما ظهر منها أنّ الجزائر قد تأثّرت أيضا بأفكار أوروبية كالاشتراكية والليبرالية والشيوعية والديمقراطية.” (منطلقات فكرية ، ص.57.)

العناية بتاريخ الجزائر الثقافي

لقد جعل المؤرِّخ أبو القاسم سعد الله: “تاريخ الجزائر الثقافي” بمثابة واسطة العقد لموسوعته التاريخية التي خصّ بها وطنه الجزائر، وقد أخذ منه الكتاب جلّ وقته بل معظم سنوات حياته، وهذا لأهمية الموضوع القصوى؛ فالاهتمام بالجانب الثقافي هو بمثابة التركيز على مظاهر الشخصية الجزائرية التي ظلت حيّة تُرزق سواء في العهد العثماني أو خلال فترة الاحتلال الفرنسي، وهذا ما يعني أن الانكسار السياسي (أي فقدان السيادة الوطنية) لا يعبّر بالضرورة عن انكسار ثقافي، بل أكثر من ذلك فإن “الذات الثقافية” الجزائرية قد تحدّت الهزيمة السياسية، ومن رَحِم الصمود الثقافي خرجت الحركة الوطنية.

وقد استحق الدكتور أبو القاسم سعد الله لقب “شيخ المؤرخين” بفضل المجلدات التي خصّصها لتاريخ الجزائر الثقافي بشكل خاص، تحدَّث فيها بإسهاب عن المؤسسات التعليمية بأنواعها المختلفة (مدارس وكتاتيب وزوايا) وعن المؤلفات المنشورة والمخطوطة، وعن المؤلفين وجهود العلماء في نشر التعليم في كلّ ربوع الوطن، وبتمويل من المجتمع خاصة عن طريق الوقف. والغاية من ذلك هو إيجاد موسوعةٍ تاريخية لثقافتنا الجزائرية كما قال: “… ومع ذلك فإنَّ لهذا الكتاب رسالة، فنحن إلى الآن لا نملك تاريخا لثقافتنا يحدّد معالمها ويكشف عن قيمها ويضبط علاقاتنا بها. وقد كانت هذه الثقافة عربية إسلامية اشترك فيها الجزائريون من شرق البلاد إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. وهي ثقافة مهما قيل إنها متقدِّمة أو منحطّة، هي نحن في ماضينا، وهي التي نستمدُّ منها اليوم ذاتنا وحقيقتنا. فالجزائري اليوم يجب أن يعتز بهذه الثقافة والانتساب إليها، لأن الشعوب التي ليس لها ثقافة لا وجود لها. ولا يهم بعد ذلك أن يقال عنّا إنّنا كنّا سياسيا مستقلين أو مستعمَرين ما دام وجودُنا الثقافي ثابتا لا يتزعزع. وهذه إحدى نقط الكتاب.” (تاريخ الجزائر الثقافي، ج.1، ص.24.)

الخاتمة

لقد أنجز أبو القاسم سعد الله عملا فكريا ضخما بحجم الجبال، لا يُنْجَزُ في العادة إلاّ من طرف فِرق البحث. ورغم تعرّضه سنة 1988م لنكبة علمية تمثّلت في ضياع محفظته في مطار لندن أثناء عودته إلى الجزائر من أمريكا، وهي تحوي جهود سنوات البحث والتنقيب والتقييد، ورغم هول الصّدمة التي أثّرت في نفسه بعض الوقت، ورغم أن المحفظة قد طواها الزمان كما يطوي البحر سفينة تغرق، فإن “الروح الآملة” قد عادت سنة 1992م كما قال، واستأنف نشاطه الفكري بعد أن حصل على منحة دراسية سنة 1993م أعادته إلى أمريكا لمدة ثلاث سنوات، أنجز خلالها تسويد كتاب “تاريخ الجزائر الثقافي” بتضحياتٍ مادية ومعنوية لا يعلمها إلاّ الله كما قال.

لهذه الاعتبارات، فإنه ليس من باب المجاملة أن يلقّب بـ”شيخ المؤرخين”. بل من باب الإنصاف والعرفان أن أوجّه نداء للمؤرخين والكتاب، أدعوهم إلى السعي من أجل تبسيط أفكار المؤرِّخ الدكتور أبو القاسم سعد الله، المكنونة في موسوعته التاريخية التي  تقارب ستين مجلدا، وذلك عن طريق إصدار سلسلة من كتب الجيب، تمكّن الشباب من الاطّلاع على بعض أفكاره. وكان الأستاذ المجاهد عبد القادر نور قد دعا إلى هذه الفكرة في حياته. كما أدعو وزارة التربية إلى إدراج بعض مؤلفاته ضمن البرامج التعليمية، من أجل بناء جسور التواصل بين المتعلمين وبين تاريخهم العريق. مع العلم أن أفضل تكريم للعلماء العاملين الأموات والأحياء منهم، هو أن نحافظ على ذكرهم من خلال تدريس بعض مؤلفاتهم للناشئة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!