-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حزب‭ ‬إسـلامي‭ .. ‬حـتى‭ ‬ولـو‭ .. !‬

حزب‭ ‬إسـلامي‭ .. ‬حـتى‭ ‬ولـو‭ .. !‬

تأبى‭ ‬تركيا،‭ ‬البلد‭ ‬المخضرم‭ ‬في‭ ‬أزمنته،‭ ‬الممزق‭ ‬في‭ ‬جغرافيته،‭ ‬المذبذب‭ ‬في‭ ‬هويته،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يضرب‭ ‬المثل‭ ‬للعالم‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬نضجه،‭ ‬وعمق‭ ‬حركيته‭.‬

فتركيا الناهضة اليوم على أنقاض عتمة العلمانية، الثائرة على سلاسل القبضة العسكرية، المتمردة على قبعة الأتاتوركية، واللائذة بأنوار الدعوة النورسية، تركيا هذه، هي التي نجحت حيث أخفق غيرها، في إعطاء الإسلام السياسي بجميع أبعاده معنى، تطبعه الواقعية، وتزينه المرحلية،‭ ‬وتجسده‭ ‬المشاركة‭ ‬الشعبية‭.‬
فالزائر‭ ‬اليوم،‭ ‬لتركيا،‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬حكم‭ ‬حزب‭ ‬العدالة‭ ‬والتنمية،‭ ‬يبهره‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل‭ ‬الهائل‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭. ‬تنمية‭ ‬دونما‭ ‬صخب،‭ ‬واحتشام‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬نصب،‭ ‬وابتسامة‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬المواطنين،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬التجهم‭ ‬أو‭ ‬الغضب‭.‬
 إنه إسلام، يتجسد بالقدوة في سلوك القيادة، ويمتد إلى حياة جميع الناس، وتحرر اقتصادي تلمس آثاره، في العملة، وفي أسواق الذهب والفضة، والماس. وهو أيضا انفتاح على قضايا العالم، في التضامن مع المضطهدين، والمستضعفين، من ليبيا، إلى سوريا، إلى غزة، وكل أبناء فلسطين‭.‬
تعلم الأتراك، من انتكاسات التاريخ في جميع الشعوب، واستخلصوا الدروس من التجارب المريرة التي عاشتها الأحزاب الإسلامية في أكثر من بلد، فجنبوا حزبهم وشعبهم، مآسي العنف والفتن، فسلكوا مسلك القائد الحكيم المتبصر الفطن.
إن أولى الدروس التي استخلصها الأتراك من غيرهم، تفادي الخطاب الاستفزازي للخصم، فنبذوا، في خطابهم أسلوب التهديد والوعيد، ودفعوا سياسة التسامح، والتعايش حتى مع المتشدد أو المتعصب، باتباع القول السديد.
كما‭ ‬لم‭ ‬يقع‭ ‬الإسلاميون‭ ‬في‭ ‬تركيا،‭ ‬في‭ ‬نشوة‭ ‬الانتصار‭ ‬المذهلة،‭ ‬التي‭ ‬تسوّل‭ ‬لأصحابها،‭ ‬أنه‭ ‬بالانتصار‭ ‬يمكن‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مخالف،‭ ‬ومحو‭ ‬أثر‭ ‬كل‭ ‬سالف‭.‬
وتعلم‭ ‬الإسلاميون،‭ ‬وعلموا‭ ‬خصومهم،‭ ‬كيفية‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬الإسلام‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬فرض‭ ‬أي‭ ‬تعاليم‭ ‬خارج‭ ‬القناعة،‭ ‬أو‭ ‬إجبار‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬ترك‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬تحت‭ ‬طائلة‭ ‬القمع،‭ ‬والتعسف،‭ ‬وفقد‭ ‬المناعة‭.‬
لذلك كله، جاءتهم “الخلافة” منقادة تجر أذيالها، وترفع أعلامها، وتنشر ظلالها. فلم يكن من السهل على الشعب التركي، الذي نشأ بين أحضان العلمانية الأتاتوركية، وما جرته من ويلات القطيعة على الانتماء الحضاري لتركيا، وعزلتها داخل محيطها الإسلامي، بالرغم من عزلها ضمن‭ ‬مناخها‭ ‬الأوروبي،‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬فتئ‭ ‬يعتبرها‭ ‬جسما‭ ‬دخيلا،‭ ‬على‭ ‬كيانه،‭ ‬بسبب‭ ‬إسلامها‭.‬
لقد وجد الإنسان التركي، في الإسلام الواقعي، المتسامح، تعويضا لعلاقة الإنسان بربه، وبشعبه في آن واحد، في غير تعصب، ولا عدوانية، ولا إقصاء للآخر المخالف. واكتشف المسلم التركي أن الإسلام متى أحسن فهمه، وتطبيقه، كفيل بفتح القلوب وغسلها من الأدران والأحقاد، كما‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬عندما‭ ‬ينزل‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬يدرّ‭ ‬عليهم‭ ‬النماء‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬فتنشط‭ ‬تجارة‭ ‬السوق،‭ ‬وتتحسن‭ ‬العلاقات‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬الواجبات‭ ‬والحقوق،‭ ‬فيختفي‭ ‬التاجر‭ ‬الغاش،‭ ‬ويحل‭ ‬محله‭ ‬المواطن‭ ‬الصدوق‭.‬
إن التجربة التركية التي خاضها حزب العدالة، تحت مظلة الإسلام، لكفيلة بأن ترسم للعالم الإسلامي، حكاما ومحكومين، معالم منهج جديد في التنمية بجميع أبعادها، بدءا بتحوّل الإنسان في حراك روحي ومادي متوازن، وانتهاء بالتطور الاقتصادي، والعلمي والتكنولوجي، في إطار القيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬السامية‭.‬
وهذه التجربة تلح على تقديم درس عميق المعنى، للحكام في البلدان الإسلامية في حسن الإصغاء لشعوبهم، عندما يصرخون في وجوههم “أحكمونا بالإسلام”. فالحكم بالإسلام، لا يعني الدولة الثيوقراطية، كما وصفها فلاسفة اليونان، وجسدتها الكنيسة في العصور المظلمة. وإذا كان من خلل في بعض التجارب التاريخية لدى بعض البلدان الإسلامية، فليس العيب في الإسلام أو قوانينه السمحة، وإنما العيب في من سوّلت لهم أنفسهم تطبيق الإسلام على غير هداه، وتغليب الجانب السياسي على الجانب الأخلاقي الإنساني في ممارسة الحكم باسم الإسلام، ولنا في التجربة‭ ‬التركية‭ ‬أحسن‭ ‬مثال‭. ‬
فهؤلاء القادة مسلمون، سنيون، حنفيون، ولكنهم سموا بإسلامهم، إلى قمة الانفتاح على كل الشعوب خارج تركيا، وعلى كل الفئات داخلها .. فكان هذا الإقبال من العالم على تركيا، التي نشطت تجارتها  بعد كساد، وصلحت سياستها بعد فساد، وتآخى العباد وتحابوا في كل أنحاء البلاد‭.‬
وما كانت الجماهير الشعبية في تركيا لتمنح أصواتها للإسلاميين بهذا الحجم، لولا ثقة منها فيهم بعد اختبارهم، واقتناعا بخطهم السياسي الذي يشفع في تفضيلهم واختيارهم .. فهذا الانتصار يأتي بعد سنوات عديدة من الحكم، تبين فيها الصادق من الكاذب، والصالح من الفاسد .. والأيام‭ ‬صحائف‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المثل‭ ‬العربي‭.‬
إن الاختيار والتفضيل إذن جاء عن تجربة وروية، فقد امتحنوهم فنجحوا، واختبروهم فربحوا، صدقوا ما عاهدوا شعبهم عليه، فما كذبوا، ولا نصبوا، ولا نهبوا، سلمت فيهم الذمم، وخلصت لديهم الهمم، وهذا ما يطلبه أي مواطن في أي شعب من حاكمه.
 على أن ما يضاف إلى الخصال الحميدة التي اتصف بها قادة حزب العدالة والتنمية التركي، التواضع في القول والأداء، فزعيم الحزب، يداعب عواطف المخالفين له، ويقول لهم نحن لسنا حزبا إسلاميا، ولكننا حزب ديمقراطي، وفي عز الإعلان عن الانتصار، أعلن أردوغان، أن الانتصار ليس‭ ‬لتركيا‭ ‬وحدها،‭ ‬ولكنه‭ ‬انتصار‭ ‬للبوسنة،‭ ‬ولغزة،‭ ‬ولفلسطين،‭ ‬ولليبيا،‭ ‬ولتونس،‭ ‬ولمصر،‭ ‬ولكل‭ ‬الشعوب‭ ‬الضعيفة‭.‬
إن هذا يذكرنا، بنفس الموقف الذي وقفه زعيم الجزائر الروحي، عبد الحميد بن باديس، عندما احتفل بختم القرآن، فقال إن هذا النجاح أوزعه على والدي الذي رباني، وعلى الشعب الذي وثق في فمنحني فلذات أكباده، وعلى إخواني من العلماء الذي وري بهم زنادي، الخ..
هؤلاء هم العظماء، في ساعة النصر، يختفون بأشخاصهم، ويظهرون بانتمائهم، وقد سبق إلى هذا الخليفة الأول للمسلمين أبو بكر الصديق، الذي قال يوم اختياره خليفة للمسلمين: “أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بأفضلكم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل‭ ‬فقوّموني‮”‬‭.‬
هذا‭ ‬هو‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬صفائه‭ ‬وجلائه،‭ ‬ليس‭ ‬شعارات‭ ‬ترفع،‭ ‬ولا‭ ‬تمائم‭ ‬تشفع،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬سلوك‭ ‬يطبعه‭ ‬الصدق،‭ ‬وإيمان‭ ‬يتبعه‭ ‬الفعل،‭ ‬وحكم‭ ‬يصدقه‭ ‬العدل‭.‬
نريد‭ ‬إسلاما‭ ‬يحكمنا،‭ ‬فيكون‭ ‬أخلاقا‭ ‬تمشي‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬وعدلا‭ ‬في‭ ‬شريعة‭ ‬المتخاصمين،‭ ‬وعفافا‭ ‬في‭ ‬ذمة‭ ‬الحاكمين‭.‬
إنه‭ ‬خطاب‭ ‬ذو‭ ‬دلالات‭ ‬عميقة،‭ ‬يبعث‭ ‬به‭ ‬الشعب‭ ‬التركي‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬انتصاره‭ ‬باسم‭ ‬الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يهمه‭ ‬الأمر‭:‬
‭* ‬إلى‭ ‬الحكام‭ ‬المسلمين،‭ ‬كي‭ ‬يتخذوا‭ ‬الإسلام‭ ‬وليا‭ ‬لهم،‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬شعوبهم‭ ‬تطالب‭ ‬بتطبيقه‭.‬
‭* ‬وإلى‭ ‬الأحزاب‭ ‬الإسلامية،‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬شعار‭ ‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الحل،‭ ‬أن‭ ‬تحسن‭ ‬فهم‭ ‬الإسلام‭ ‬أولا،‭ ‬وأن‭ ‬تتقن‭ ‬استنباط‭ ‬أحكامه،‭ ‬وأن‭ ‬تجسد‭ ‬مبادئه‭ ‬بالقدوة‭ ‬التي‭ ‬يطبعها‭ ‬التسامح،‭ ‬وأدب‭ ‬الاختلاف،‭ ‬ونظافة‭ ‬الذمة‭ ‬والضمير‭.‬
‭* ‬وإلى‭ ‬الشعوب‭ ‬الإسلامية‭ ‬كي‭ ‬تستيقظ‭ ‬من‭ ‬سباتها،‭ ‬فتميز‭ ‬بين‭ ‬الغث‭ ‬والسمين،‭ ‬والخبيث‭ ‬والطيب،‭ ‬والمفسد‭ ‬من‭ ‬المصلح‭.‬
ويبقى‭ ‬حزب‭ ‬العدالة‭ ‬والتنمية‭ ‬في‭ ‬تركيا،‭ ‬حزبا‭ ‬إسلاميا،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬أن‭ ‬قادته‭ ‬ينفون‭ ‬عنه‭ ‬ذلك،‭ ‬تقية،‭ ‬ودفعا‭ ‬للشبهة،‭ ‬وطمأنة‭ ‬لقلوب‭ ‬المخالفين‭.‬
وإن في ذلك لعبرة، ينبغي استخلاصها من القائمين على التجربة الإسلامية في تركيا، لينتفع بمدلولها  كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وتهنئة من الأعماق إلى شعب تركيا الشقيق، صانع التحوّل السلمي، على عكس ما يحدث من حوله في الشرق والغرب.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!