الرأي

حيرة “عقلة الأصبع” الفرنسي

حبيب راشدين
  • 1885
  • 6
ح.م

الظاهر أن الضربات الموجعة التي تضامن في توجيهها الحَراكُ ومؤسستي الجيش والعدالة لبؤر “الاستيطان الفرنسي” بالدولة الجزائرية، وفي جزءٍ من المشهد السياسي والجمعوي والإعلامي، أنها باتت تؤتي أكلها، ويضيق بها صدر فرنسا التي لم يتردد رئيسها، على هامش “لقاء الخمسة زائد خمسة” في توصيف الوضع القائم بالجزائر على أنه “أزمة سياسية لا ينبغي أن نخفيها خلف أصبعنا” على حدِّ تعبيره، ولعله يعني الأزمة البنيوية التي نشأت مع الحَراك في مستقبل العلاقات بين الجزائر وفرنسا، ومصير الأذرع التي كانت توظَّف في تأمين المصالح الفرنسية، وتؤثر في مختلف القرارات السيادية: في الاقتصاد، والمال، والتعليم، والثقافة، وحتى في إدارة الرأي العام.

للأمانة وجب تفهُّم حسرة الرئيس الفرنسي وتقديره المحبِط للموقف، لأن نتائج الحَراك الشعبي قد جاءت حتى الآن بما لا تشتهيه سفن “فافا” وحزبُها العتيد، الذي كان قد أعاد الاستيطان والتموقع على هامش “المرحلة الانتقالية” بعد توقيف المسار الانتخابي في تسعينيات القرن الماضي، والتي سمحت له بإعادة انتشار أدوات النفوذ في كثير من مؤسسات الدولة بما فيها مؤسسة الجيش، ونشوء إمبراطوريات “كامبرادورية” نافذة بدأت بمجمَّع الخليفة، ولم تكن لتتوقف عند ربراب، وحداد، وكونيناف، وطحكوت…

حتى صدور آخر خطاب لرئيس الأركان من بشار، وصدور فتوى المجلس الدستوري التي مرَّرت التمديد بيسر للمرحلة الانتقالية الدستورية، كان الموقف الفرنسي حذرا جدا، وقد امتنع الساسة الفرنسيون عن التعليق على الأحداث، خشية تفويت الفرصة على من يقاول بضراوة لمرحلةٍ انتقالية خارج الدستور، تضمن لأذرع حزب فرنسا ومشتقَّاته في المجتمع المدني والإعلامي فرصة إنقاذ ما يمكن إنقاذُه، وهي تعلم أن الذهاب إلى انتخابات رئاسية، ليس فيها نصيبٌ لموالاتها في الحزيبات العلمانية، سوف يمنح الفرصة لتصفية البؤر الاستيطانية الفرنسية في ما هو ـ في العرف الفرنسي ـ أهمّ من المال والأعمال، بتطهير مؤسسات الحكم من أعوانها الذين حّولوا الجزائر إلى أوّل بلد فرنكفوني بعد فرنسا بتمويل جزائري صرف.

ليس من السهل على فرنسا أن تتحمّل حصول مراجعة في المنظومة التعليمية تسمح غدا لـ”شيكسبير” بطرد “فولتير” من مدرّجات الجامعة، حتى وإن كان ما صدر عن وزارة التعليم العالي هو حتى الآن مجرّد بالون اختبار وجسّ لنبض الشارع، لكن الرسالة تكون قد استقبِلت بقدر من الجدية والاستنفار في قصر الإليزي، الذي يرى في المسار السياسي المفتوح اليوم في الجزائر تهديداتٍ قاتلة للنفوذ الفرنسي في حظيرتها الخلفية بالمغرب العربي، ومن ورائها لما بقي من لها من نفوذ في القارة السمراء، وتخشى أن يعيد التاريخُ ما نتج عن ثورة التحرير من هدم للإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، قد حرمها من بناء علاقات نِدِّية مع الجزائر المستقلة إلى يومنا هذا.

ولنفس الأسباب ينبغي “تفهُّم” الهجمات المركزة على مؤسسة الجيش من قبل أذرع النفوذ الفرنسي في المشهد السياسي والجمعوي والإعلامي، لأنّ مؤسسة الجيش كانت قد أنهت عملية تطهير صفوفها من بقايا “دفعة لاكوست” وتحرير وحداتها من أعين جهاز الدولة العميقة بمديرية الأمن والاستعلامات المُحلة منذ 2015، ويأتي تحرير مؤسسة القضاء بحبل من الحَراك وحبل من مؤسسة الجيش، ليحوِّلها إلى منجل يحصد بالجملة رموز حزب فرنسا في واجهة السلطة، وفي مؤسَّسات الدولة، وفي الاقتصاد والمال، قد بدأ بالرؤوس بالمركز ويشي بمطاردةٍ قادمة لأذرع الإخطبوط على المستوى المحلي.

بهذا المعنى، يمكن إعادة قراءة التصريح الأخير لماكرون على أن “الوجود الفرنسي في الجزائر يعيش أزمة لا يمكن التستُّر عليها خلف الأصبع” وقد حوَّله الحَراك الجزائري إلى “عقلة الأصبع”.

مقالات ذات صلة