-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
ثاموغلي

حيزر … من هناك مرّ الإصلاح

حيزر … من هناك مرّ الإصلاح

تقع منطقة حيزر في الواجهة الجنوبية، بالقسم الغربي لجبال جرجرة، وهي تابعة لولاية البويرة (ثوبيرت). ميزتها جمال طبيعي خلاب يهز النفوس، أبدعت يد الخالق في صنعه، فهي غزيرة المياه، دائمة الاخضرار، ذات الهواء النقي الذي يغني عن التطبيب.

  • ظلت هذه المنطقة تحيا حياة بسيطة، في ظل ثقافتها الأمازيغية الأصيلة، إلى أن قيّض الله لها من أبنائها، من طلبوا العلم في منابعه بقسنطينة وجامع الزيتونة، وجامع القرويين، ليعودوا بعد التحصيل إليها. ومن ثم شرعوا في نشر العلم، فخرجت من عزلتها، وصارت منارة للعلم يقصدها المدرّسون والدارسون، خاصة بعد تأسيس المدرسة الحرة الرائدة في قرية إزمورن، وهي موضوع مقالنا هذا(1).
  • قرية إزَمُورَنْ
  • إزَمُورَنْ هي قرية صغيرة في الأصل، والتسمية كلمة أمازيغية تعني »الزياتين«. وهي بمثابة جوهرة في عقد منطقة حيزر، يقطنها أشراف مرابطون، أسسوا قريتهم حول قبر جدهم الأول سيدي بن عبد الله، الذي بنوا له قبة ومسجدا. وقد توارث سكانها حفظ القرآن أبا عن جد، وكذا القيام بنشر ثقافة المصالحة، وإصلاح ذات البين، وتسوية الخلافات بالتي هي أحسن، على عادة المرابطين الأشراف في بلاد الزواوة. ولعل أبرز رموز الرعيل السابق عن ظهور الحركة الإصلاحية بالقرية، السادة عوالي السعيد (شهيد)، السيد عليوي محمد (شهيد)، السيد عيڤون السعيد (مجاهد).
  • هذا ومن الطبيعي أن يقيم هؤلاء السكان جسورا علمية مع منارات العلم في المغرب الكبير، من أجل الحفاظ على تواصلهم مع الحضارة الإسلامية التي تفرعوا عنها. ونظرا لفقر التربة، وقلة موارد العيش في القرية، فقد اضطر العديد من شبابها إلى الهجرة نحو فرنسا – على غرار سكان جبال جرجرة – بحثا عن مورد رزق يمكنهم من إعالة أهلهم.
  • تأسيس المدرسة الحرة
  • انفتحت القرية على العالم الخارجي، وبدأت مؤثراته تصل الى القرية، بفضل توجه بعض أبنائها للدراسة في جامع القرويين بالمغرب الأقصى، وجامع الزيتونة بتونس، ثم في معهد ابن باديس بقسنطينة منذ سنة 1947م، وكذا بفضل المهاجرين الى فرنسا. وأسفر ذلك عن اقتناع سكانها بضرورة بناء مدرسة عصرية حرة، تخرج أبناءها من ظلمات الجهل، الى نور العلوم والمعارف. ولا شك أن انجاز هذا المشروع، قد واجه صعوبات جمة، ناجمة – من جهة – عن ضغوطات الإدارة الاستعمارية، التي كانت تحارب التعليم العربي الحر بكل ما أوتيت من قوة، وعن تفشي الجهل الذي حال دون إدراك الناس لأهمية التعليم في ترقية الحياة القروية من جهة أخرى. لكن تحالف الفئة المتعلمة، مع المهاجرين، قد ساعد على انجاز هذا المشروع التربوي.
  • هذا وتشكلت لجنة للتكفل بالمشروع، واقتضت خطة العمل، البدء بتأسيس شعبة (فرع) جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالقرية أولا، كأرضية للانطلاق. وبالفعل تم تأسيس الشعبة، ووُزعت مهامها على الأعضاء، على النحو التالي:
  • السيد عبد الرحمن قاري: رئيسا.
  • السيد علي مزوز: نائبا.
  • السيد أعمر عيڤون: كاتبا.
  •  السيد محمد فضيل: أمين المال.
  • السيد أحمد عيڤون: نائبا.
  •  
  •  نشر خبر هذا الحدث في جريدة البصائر (لسان جمعية العلماء). وعلى إثر ذلك أوفدت الجمعية، السيد السعيد بوتقجيرث البيباني، لتفقد هذا المولود الجديد في عين المكان، وكان ذلك في غضون سنة 1952م، التي أنجزت فيها المدرسة أيضا. ومما تجدر الإشارة إليه أن المهاجرين من أبناء القرية بفرنسا، قد لعبوا دورا بارزا في تمويل مشروع المدرسة.
  • تدشين المدرسة
  • كان تدشين المدرسة يوما مشهودا في تاريخ قرية إزمورن، حضر الحفل أهل القرية، وبعض الممثلين للمدارس الحرة، كمدرسة الشبيبة بتيزي وزو، التي مثلها الشاعر حسن حموتن، ومدرسة الثبات بالحراش التي مثلها الشاعر الشهيد الربيع بوشامة، وحضر أيضا الشيخ السعيد الصالحي، وغيرهم. وأطلق عليها اسم “مدرسة الفضيل الورثيلاني” تيمّنا بمآثر هذا المصلح الكبير الذي طبقت شهرته الآفاق. واستقبلت المدرسة صغار القرية من الجنسين.
  •  ومن أبرز معلميها؛ محمد فضيل، وعلي لرباس (خريج دمشق)، وأعمر عيڤون وسي فضيل السعيد، وزياني المدني، وبلمهدي حسن. هذا وقد أدرك السيد أعمر عيڤون أهمية تدشين المدرسة باعتباره حدثا عظيما، فاستقدم مصورا محترفا، أخذ صورة تذكارية للتدشين، شملت التلاميذ وبعض المعلمين (علي لرباس، وأعمر عيڤون، ومحمد فضيل، وعبد الرحمن قاري). ومما تجدر الإشارة إليه أن مدرسة إزمورن كانت فأل خير على عرش حيزر وما جاوره، إذ ساعد تأسيسها على ظهور مدارس أخرى، كمدرسة البويرة، التي أشرف الشيخ السعيد الصالحي على وضع حجر الأساس فيها، ومدرسة زبوجة التي درّس بها الشيخ أعمر عيڤون، ومدرسة الأسنام التي درّس بها الشيخ أحمد عيڤون، ومدرسة ثاناڤوتْ، التي درس بها الشيخ عبد الرحمن قاري، والشيخ السعيد عيڤون. والملفت للانتباه، أن الإدارة الفرنسية، قد أسرعت إلى تدشين مدرسة بمقر حيزر سنة 1954م لمواجهة تنامي التعليم العربي هناك.
  • ذاكرة الإصلاح
  •  خصص السيد أعمر عيڤون مقالا بعنوان “قرية الزمورة” حول هذه الجهود الإصلاحية، وما عاناه الأخيار من أجل ربط الصلة بجمعية العلماء، وحول ظروف تأسيس المدرسة، وهو (أي المقال) في واقع الأمر، تدوين وتأريخ للجهود الإصلاحية في قرية إزمورن، جاء فيه على الخصوص: “…وفي سنة 1947 هاجر شبان منها (أي القرية) يبتغون العلم والثقافة، فكان أن قصدوا معهد عبد الحميد بن باديس، وقد وجدوا فيه ضالتهم، وقد زالت تلك الغشاوة عن أعينهم، وعرفوا التربية الحقيقية، والعلم الصحيح. وما أن أتمّوا دراستهم حتى بدأوا يؤدون واجبهم، كشأن شباب جمعية العلماء العامل. ثاروا على تلك التقاليد البالية الفاسدة، وبيّنوا للناس فوائد التجديد، وقابل الناس هذا منهم بالسخرية. غير أنهم لم يهنوا، ولا عرف اليأس إلى نفوسهم سبيلا، وكلما سنحت لهم الفرصة أبدوا رغائبهم. وما فتئوا يواصلون جهادهم حتى أسسوا شعبة الزمورة التابعة لجمعية العلماء. وشاء الله أن تزداد هذه الجمعية قوة ونموا، فكان أن تفقدها الشيخ السعيد البيباني في 8 ذي الحجة. وأقبل الناس أفواجا، واستمع الناس إلى الخطيب، فكأن الكهرباء انتقلت إلى أجسامهم. وفي ذلك الحين عاهدوا الله على أن يعملوا متحدين«. وأضاف الكاتب حول تأسيس المدرسة الحرة، منوّها بدور المهاجرين في تمويل هذا المشروع التربوي، قائلا: “وفي 15 أكتوبر، وضعوا الحجر الأساسي لبناء مدرسة وهي الأولى في ناحيتنا، وما أن سمع شبابهم النازح إلى فرنسا لأجل العمل، حتى أخذتهم الغيرة على دينهم ولغتهم. وتحمسوا لهذا المشروع. واجتمعوا في يوم 19 نوفمبر وتبرعوا لفائدة المدرسة. ونحن نشكر لهم هذا العمل الكريم، ونهيب بهم أن يتمسكوا بهذه السنة الجميلة. حيّا الله جمعية العلماء.”. ثم ذيّل المقال بقائمة المهاجرين (18 فردا)، المتبرعين بالمال الضروري للمشروع، مع ذكر المبلغ الذي تبرع به كل واحد منهم على حدة(2).
  • من الإصلاح إلى الكفاح المسلح
  • من الطبيعي أن يلتحق معظم معلمي وتلامذة هذه المدرسة، بصفوف ثورة نوفمبر المجيدة، لأنه- فضلا عن محاربة الجهل – كان إحياء الهوية الوطنية بأبعادها الدينية واللغوية والقومية، من الأهداف الأساسية للمدارس الحرة، غايته تحصين الناشئة بالتربية الوطنية، الضرورية لتعبئة الشباب مستقبلا، حول الحركة السياسية العاملة على تحرير الوطن. وعليه كان مصيرهم، بعد اندلاع الثورة في أحد المواقع الثلاثة: الجهاد، أو السجن، أو الاستشهاد في ميدان الشرف.
  • هذا وقد توقفت المدرسة عن نشاطها بسبب ظروف الحرب، بعد أن أدرج الجيش الفرنسي القرية ضمن المنطقة المحرمة سنة 1957م. ودفع حب الوطن والرغبة في تحريره من نير الاستعمار، المعلمين والتلاميذ إلى الانضمام إلى صفوف الثورة، فاستشهد بعض تلامذتها (سيد علي أحمد، الهواري أعمر بن محمد، الهواري أعمر بن الشريف…)، وبعض الشيوخ (أحمد عيڤون، أعمر عيڤون، فضيل محمد، وعلي لرباس…).
  • عبد الرحمن قاري
  • تشرف السيد عبد الرحمن قاري، بترؤس أول شعبة لجمعية العلماء في قرية إزمورن. وهو من مواليد 1926م، درس في العديد من زوايا القبائل كزاوية سيدي علي اُويحي بآث كوفي (بوغني)، وزاوية سيدي علي اُوموسى بمعاثقه، وزاوية إزروقن بسيدي عيش، التي أكمل فيها حفظ القرآن الكريم ، وبعض المتون المقررة آنذاك، كإبن عاشر (المرشد المعين على الضروري من علوم الدين)، وألفية ابن مالك في النحو والصرف، للعلامة محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي، وغيرهما من المقررات. و رغم رقة وضعيته الاجتماعية، وكثرة العقبات، فإنه لم يكتف بما حصل عليه من العلم في المؤسسات التعليمية المحلية، بل سافر إلى جامع الزيتونة بتونس لبعض الوقت، ليقرر بعد ذلك السفر إلى جامع القرويين بمدينة فاس المغربية، بعد أن تناهى إلى سمعه أن ظروف الدراسة هناك أفضل، فشد الرحال إليه بحزم وعزم. وبعد أن نال قسطا من التحصيل هناك، قفل راجعا إلى قريته إزمورن سنة 1950م، ليتفرغ للنشاط الإصلاحي والتربوي بمعية عدد من الأخيار المتعلمين. وعندما اندلعت ثورة نوفمبر المجيدة، أنضم إلى صفوفها بواسطة السيد القمراوي. وكان قدره أن تعرض للسجن، وكتبت له الحياة، فأدرك عهد الاستقلال.
  • أعمر عيڤون
  • ولد أعمر عيڤون سنة 1927م، كتب له أن يعيش يتيما، بعد فقدان والديه في طفولته، فكفله أخواه السعيد، وأحمد اللذان كانا يمارسان مهنة التعليم في جوامع وزوايا عديدة بالزواوة، وساعده هذا الجو على تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم. ثم يمم شطره نحو معهد ابن باديس بقسنطينة، فجامع الزيتونة أين تحصل على شهادة التحصيل. وعلى اثر ذلك قفل راجعا إلى مسقط رأسه ليشارك في بعث النهضة الإصلاحية بمعية رفاقه على النحو المذكور آنفا.
  • واعتبارا لنشاطه التربوي المشرّب بالروح الوطنية، فقد ضايقته الإدارة الفرنسية، إلى حد تأليب أعوانها عليه فتعرض للاعتداء الجسدي. الأمر الذي أرغمه على مغادرة البويرة، فاتجه نحو قسنطينة، ومنها إلى الأوراس الأشم. وهناك أنضم إلى صفوف الثورة عند اندلاعها في غرة نوفمبر 1954م. وقد مكنه مستواه التعليمي الجيد من تبوؤ مكانة مرقومة في صفوف الثورة.
  • ثم لم يلبث أن قفل راجعا إلى جرجرة على رأس فرقة من المجاهدين كانت تضم عشرة أفراد. وعندما وصلت إلى مكان يدعى (الحامة) جنوب مدينة برج بوعريرج، وقع اشتباك مع الجيش الفرنسي، أسفر عن استشهاد ستة مجاهدين، من بينهم أعمر عيڤون. وبعد الاستقلال نقلت جثامين هؤلاء الشهداء إلى مقبرة الشهداء بمدينة برج بوعريرج.
  •  هذا وقد بادرت جمعية التاريخ والتراث لولاية البويرة إلى تكريم ذكر هؤلاء المصلحين الوطنيين سنة 2006، بتسليم شهادة شرفية لذويهم. ومن باب الحفاظ على تراث الحركة الإصلاحية، يجدر بأهل قرية إزمورن أن يعملوا من أجل الحفاظ على هيكل المدرسة- بعد أن توقف العمل بها – كمعلم تاريخي، يصلح لأن يصبح متحفا تـُحفظ فيه مظاهر الحياة القروية الآيلة إلى الزوال، بعد أن عصفت بها الحياة العصرية.علما أن ثقافة المتاحف، لا زالت عندنا ضعيفة بصفة عامة، رغم أهميتها في ربط الحاضر بالماضي.
  • ــــــــــــــــــــــــــــــ
  • الهوامش
  • 1- يعود الفضل في انجاز هذا المقال ، إلى الدكتور خالد عيڤون، الذي لم يدخر جهدا من أجل تزويدي بما لديه
  •  من معلومات ووثائق تاريخية، فله جزيل الشكر والعرفان.
  • 2- جريدة البصائر، السلسلة الثانية، العدد 215، المؤرخ في 30 جانفي 1953م.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!