-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حينما يخرج الخلاف من ساحته! (1/ 2)

سلطان بركاني
  • 975
  • 0
حينما يخرج الخلاف من ساحته! (1/ 2)

تابعنا في الأيام الماضية ذلك الجدال المحتدم بين من يرى أنّ الاحتفال بالمولد النبويّ بدعة، وبين من يرى أنّه مشروع وجائز وأنّه ينبغي الاستثمار في المناسبة لتذكير المسلمين بحبيبهم وشفيعهم وبرسالته ووصاياه التي تركها لأمّته.. جدال كان يمكن أن يكون مقبولا لو بقي بين أهل العلم وطرح كلّ طرف وجهة نظره بكلّ احترام وتقدير للطرف الآخر.. لكن مع كلّ أسف نزل الخلاف إلى عامّة المسلمين، وخاضه من لا حظّ له من علم ولا حكمة، وانطلق الجهلة يوزّعون الاتّهامات ويسيئون الظّنون ويحاكمون النيات!

لقد بلغ الأمر ببعض المتعصّبين إلى حدّ القول بأنّ الاحتفال بالمولد بدعة ضلالة أشدّ من كلّ معصية وكلّ كبيرة، وحتى قال من قال إنّ الطّعام الذي يصنع في ليلة المولد حرام أكله، وأنّ الطلبة الجامعيين الذين يقطنون في الأحياء الجامعية يتعيّن عليهم أن يمتنعوا عن أكل كلّ ما صنع للمولد خصوصا.. بل قد وصل الغلوّ ببعضهم إلى أن كتبوا يقولون إنّ تناول العشاء الخاصّ بالمولد أشدّ إثما من شرب الخمر وأكل الربا.. وفي الطّرف المقابل بلغ الأمر ببعض المتعصّبة إلى اتّهام من يترك الاحتفال بالمولد بأنّه يكره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ووُجد من يدافع عن الطقوس الغريبة التي يؤدّيها بعض المتصوّفة في ليلة المولد من رقص واهتزاز وتمايل.. وقد كان طبيعيا أن ينزل النقاش إلى هذا الدّرك، ما دام قد نزل من ساحة العلماء وطلبة العلم إلى ساحة الدّهماء والجهلة المتعصّبين.

الخلاف بين الأمّة في كثير من مسائل الدّين الاجتهادية كان واستمرّ وسيظلّ باقيا، لكنّه يفترض ألا يؤدّي بالمسلمين إلى التناحر والتنازع، فينسوا عدوّهم الذي يتربّص بهم ويتحسّس عوراتهم ليجوس خلال ديارهم ويغري بينهم العداوة.. يفترض في المسلمين أن يعودوا إلى سيرة الصحابة الأبرار ليتعلّموا كيف يتعاملون مع خلافاتهم عندما يكون العدوّ على أبوابهم.. ولعله يحسن بنا في هذا المقام أن نستذكر ذلك الدّرس العظيم الذي سطره خيرة خلق الله بعد الأنبياء والمرسلين في التعامل مع الخلاف، في غزو بني قريظة، في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة من الهجرة، حين خاض المسلمون بقيادة الحبيب المصطفى -عليه الصلاة والسلام- غمار غزوة الأحزاب على تخوم المدينة، ضدّ قريش وحلفائها، وتعرّضوا لخيانة ماكرة من طرف يهود بني قريظة الذين أعطوا العهود والمواثيق بألا يخونوا المسلمين، ولكنّهم نقضوا العهد واستغلوا انشغال المسلمين بمدافعة الأحزاب، وهجموا على نساء المسلمين وأطفالهم، وحاولوا فتح ثغرة للمشركين يعبرون منها.. ولولا لطف الله لحلّت النكبة بالمسلمين يومها.. حينما ردّ الله الأحزاب على أدبارهم وعادوا خائبين بعد شهر من الحصار، وبينما كان النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- في بيته في المدينة بعد صلاة الظّهر، أتاه جبريل يستنفره لحرب بني قريظة جنوب المدينة.. فنادى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الناس: “لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة”، فانطلقوا على ما بهم من تعب ونصب وإرهاق.. حثوا السير وأسرعوا، لكنّ صلاة العصر أدركتهم في الطّريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أن نؤخّر الصّلاة، إنّما أراد أن نسرع إلى القوم.. اختلفوا لكنّ خلافهم لم يجعلهم يتوقّفون عن مسيرهم لتأديب اليهود، بل انطلقوا حتّى وصلوا إلى حصون الخائنين، بعد غروب الشّمس، عندها تقدّم من لم يصلّوا العصر في الطّريق فصلّوها هناك، وصلّوا بعدها المغرب جميعا.. وحينما التحق بهم قائدهم المصطفى، ذكروا له ما كان بينهم من خلاف، لكنّه حين رآهم على قلب رجل واحد في مواجهة حصون اليهود، تبسّم ولم يعنّف أحدا من الفريقين، بل جمعهم وحاصر بهم حصون الغادرين، حتّى اشتد الحصار على اليهود، واضطروا للاستسلام، وتمّ تأديبهم والقصاص منهم.

اختلف الصحابة في فهم أمر النبيّ -صلّى الله عليه وسلم- بألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فمنهم من فهم الأمر على ظاهره ولم يصلّ العصر حتّى خرج وقته، ومنهم من نظر في المقصد، وفهم أنّ النبيّ -عليه السلام- إنّما أراد منهم أن يسرعوا في سيرهم إلى بني قريظة، ولم يرد أن يؤخّروا الصّلاة عن وقتها والله يقول: ((إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)).. بعضهم تمسّك بالظّاهر، وبعضهم تمسّك بالمقصد، ولم يحل الخلاف بينهم وبين مناجزة العدوّ.

من الناحية الفقهية، فإنّ ما فعله الصحابة الذين صلّوا العصر في الطّريق هو الأصوب، لكنّ الذين أخروا الصلاة معذورون لتمسّكهم بظاهر الأمر، خاصّة والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ بين أظهرهم، ولا يدرون لعل الرخصة في تأخير الصلاة قد نزلت عليه.

هذه الواقعة تعلّمنا أنّ الأمة في حاجة إلى من يثبتون على الظاهر حتى لا تبتعد العقول كثيرا عن ظواهر النصوص، وتكثر التأويلات والآراء، وفي حاجة أكثر إلى من يفقهون النّصوص وينظرون إلى المقاصد، حتى يستوعب الدّين أحوال الناس وظروفهم ومعايشهم.. وقد ظلّ الخلاف بين أهل الظاهر والأثر من جهة، وبين أهل المقاصد والنظر من جهة أخرى، في إطاره بين العلماء، مع بقاء القلوب نقية صافية، ومع تعاون الجميع على نصرة الدّين والوقوف في وجه المتربصين.. اختلف الصحابة في حياة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وبعد وفاته، فكان منهم من يميل إلى التمسّك بظواهر النصوص، وكان منهم من يميل إلى النّظر ويهتمّ بالمقاصد.. اشتهر من المتمسّكين بالرواية عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وصحابة آخرون غيرهم، واشتهر بين من يميل إلى النّظر والدّراية والمقاصد عمر بن الخطّاب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين.. فهذه مثلا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حينما قيل لها إنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: “إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه”، أنكرت أن يكون قد قال ذلك وحلفت أنه ما قاله، وقالت: أين أنتم من قول الله تعالى: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى))؟ وحينما سمعت في مرّة أخرى من يروي حديثا عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: “يقطع الصّلاة المرأة والحمار والكلب”؛ أنكرت أن يكون النبيّ -عليه السلام- قال هذا، وقالت: “شبهتمونا بالحُمُر والكلاب، والله لقد رأيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يصلي وأنا على السرير بينه وبين القِبلة مضطجعة”، وهكذا حينما سمعت حديث: “الطيرة في ثلاث: المرأة والدار والفرس”، أنكرت أن يكون بهذا اللفظ، وقالت: “إنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال إنّ أهل الجاهلية يتطيّرون بالمرأة والدّار والفرس”.

بعد وفاة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حدثت ردّة في بعض قبائل العرب، ورفضت بعض القبائل دفع الزّكاة، فقرّر أبو بكر أن يقاتل مانعي الزّكاة كما قاتل المرتدين، مع تفريقه بين مانعي الزّكاة المسلمين وبين المرتدين، وحينما قال له بعض الصحابة: أتقاتل من يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله؟! قال: “والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزكاة”، وما هي حتّى انشرحت صدور الصحابة لرأيه وقاتلوا معه تحت إمرته.. وبعدها حينما كثر القتل في حفظة القرآن من صحابة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- في حروب الردّة، جاء عمر بن الخطّاب إلى أبي بكر فقال: “إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعه وإني لأرى أن تجمع القرآن”، فقال له أبو بكر: “كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟”، ولم يزل عمر بن الخطاب بالخليفة يقنعه بالرأي حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك.

يتبع بإذن الله…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!