-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حَراك المتقاعدين

جمال لعبيدي
  • 1073
  • 0
حَراك المتقاعدين
ح.م

من بين الحراكات المتعددة، المكوِّنة للحَراك الأصلي، حراك المتقاعدين.

إنهم جزءٌ من المتظاهرين متزايد الحجم، لاسيما يوم الثلاثاء، إذ يحضرون بشكل بارز في المسيرة المسمَّاة مسيرة الطلبة. يبلغ عدد المتقاعدين في الجزائر أكثر من ثلاثة ملايين، وباستثناء قلة من الموظفين السامين، يتميز وضع الأغلبية الكبرى من المتقاعدين بالهشاشة لكون مِنحهم، التي لا تتعدى 15000 إلى 20000 دينار، قد تعرَّضت على مر السنين للاستنزاف بسبب التضخُّم، فعايشوا آلام تقهقر منزلتهم الاجتماعية. وهم في كل مكان، في المدن وفي القرى أيضا، إذ يمكن مشاهدتُهم جالسين على مقاعد عمومية أو السلم الحجري للطرقات أو حتى على حافة حائط، مفترشين ورقة من جريدة أو من كرطون. تراهم يقرؤون ويعيدون قراءة نفس الصحيفة، يلعبون ويعيدون لعب الدومينو في المقاهي، يعلقون ويعيدون التعليق على الوضع السياسي بأصوات متفجِّرة.

“الأيام الخوالي..”

كان لهم بالأمس مكانةٌ معترف بها، في مجتمع جعل اقتصاد الدولة من كل الناس تقريبا موظفين، وجعل من الموظف الشخص الذي يتوجب التقرُّبُ منه ومجاملته. وهاهم اليوم يشعرون بتدني قيمتهم، فيسكنهم الحنين إلى الأيام الخوالي، بين السبعينيات ومطلع الثمانينيات، التي كان العيش خلالها بسيطا، بلا غلاء وغير خاضع لرحمة المال. مرارتهم، ضغينتهم كبيرتان. إنهم يشعرون بأنهم ضحايا الغدر من قبل دولة.. لقد أعطوها، حسب اعتقادهم، كل شيء، شبابهم أولا وأخيرا. إنهم يبحثون عن المسؤولين، يحتجُّون على السرقة والخيانة ويرددون شعارات المسيرات بنبرة حادَّة، غاضبة.

أثناء الصيف، كانوا يعانون ولكنهم أصروا على الحضور.. كانوا يقفون عندما تدركهم المسيرة وينضمُّون إليها، فيرفعون قبضة تهديد في أعلى ذراع ضامرة، في أغلب الحالات، ويصرخون بمطالبهم، كاشفين عن هشاشة وضعهم من خلال أفواههم المفتوحة على أسنان باتت نادرة. وأثناء السير يقع اللقاء بينهم وبين شبان الأحياء الشعبية، كباب الوادي، بلوزداد، المدنية، الحراش… هؤلاء لا يعملون وأولئك توقَّفوا عن العمل. يحدث التفاهم بين الفريقين خلال هذه الأيام الطويلة فيلتحمان، تفرِّقهما وتجمعهما نفس الأهازيج، نفس الشعارات المنبعثة عادة من ملاعب كرة القدم، نفس الرقصات الواثبة في عين المكان التي يحاول القدماء أداءها ولو بصعوبةٍ مثيرة للشفقة. إنهم يبذلون جهدهم، يطمحون إلى احتلال المقدمة، يتشبَّثون باللافتات، لكن سرعان ما ينال منهم التعب.. لم يعودوا شبابا لكن بقيت ذكرياتهم لتغذية سخطهم.

هناك قدماء الموظفين في إدارة أو في جامعة كانت فرنكوفونية بالكامل في وقتهم وفقدوا اليوم معالمهم.. هؤلاء يسكنهم الحنين إلى جزائر علمانية كانت فيها البنات يرتدين “الميني جيب” والحانات مفتوحة والديانة أمرا خصوصيا والاستقلال وعدا باللحاق بنمط العيش الغربي. هؤلاء يرغون ويزبدون اليوم أمام الشارع المتسخ واقتصاد “البازار” والاستقلال الذي غيَّر وجهته.

وهناك قدماء المتعاطفين الإسلاميين من الأحياء الشعبية، الذين يتميزون غالبا عن الآخرين بلحاهم الشائبة التي حلت محل سوداوات شبابهم. هؤلاء تسكنهم ذكريات التسعينيات والسرقة الانتخابية التي حدثت في مطلعها والكبت غير المحدود والقمع الذي سُلِّط عليهم لأنهم “أساؤوا التصويت” والمأساة الوطنية والجراح التي تأبى الاندمال. منذ ذلك الوقت، توقف هؤلاء عن التصويت. بعد مرور ثلاثين سنة، هل حانت ساعة تصفية الحسابات؟ هناك من يؤكد لهم أن الفرصة مواتية وأن نافذة التصويب هذه، التي يوفرها التاريخ الآن، قد تُغلَق لفترةٍ طويلة. وهم يعتقدون أنهم يحيون نفس السيناريو. هل هو نفسه حقا؟ أصبح بعض القادة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ معجبين بالغرب ويخاطبون أنصارهم انطلاقا من العواصم الغربية. وأصبح مناضلون قدماء في تلك الجبهة يلتقون في الحراك، جنبا إلى جنب، مع أولئك الذين طالبوا الجيش باستئصالهم في التسعينيات ويصرخون معهم بنفس الشعارات: “دولة مدنية لا عسكرية”، في الوقت الذي يلحّ العسكر على الجزائريين بانتخاب رئيسٍ للجمهورية. الجيش يؤكد أنه ليس ذاك الجيش، وقيادته الحالية تؤكد أنها عازمة على عدم تكرار مآسي 88 و90. هل الغرض من تلك الشعارات هو إعادة الكرَّة؟ أم يعتقد أصحابها أن شيئا لم يتغير بينما كل شيء قد تغير، بمن فيه هم أنفسهم؟ لقد باتت نفس الأطراف السابقة تؤدي أدوارا مختلفة في حين تقوم الشبيبة بمحاولة فهم ما حصل وما يحصل… عبر الاستماع إلى ذكريات ونصائح القدماء.

الشبان هنا هم أحفاد المتقاعدين، في الغالب. يشعر القدماء تجاههم بنوع من الذنب لأنهم لم يضمنوا لهم مستقبلهم. غير أنه تم العثور على الجناة وهذا يريح البال: “سرقوا البلاد !يروحوا قاع [كلهم]!” تفسيرات بسيطة ومطمئنة. المشكل، كما يقال لهم، أخلاقي قبل كل شيء وليس اقتصاديا. تكفي الفضيلة، تكفي النزاهة، بل يكفي تغليب المبادئ الدينية لحل جميع المشاكل: العدل، التنمية، الحرقة [الهجرة غير الشرعية]، التربية، الصحة… ولكي تصبح البلاد في مستوى البلاد المتطورة ويصبح الشبان والكفاءات في غير الحاجة إلى الهجرة. إنها قائمة أحلام لا يمكن أن يرفضها أحدٌ وتعوض عن تسطير برنامج. إنه وعدٌ باستحداث الجنة فوق الأرض… بعد انتصار “الثورة “. الأمر في غاية الوضوح.

شبان ومتقاعدون: نفس الكفاح

 بيد أن أشياء كثيرة غيرت العالم منذ التسعينيات..

الاقتصاد المسيَّر من الدولة انهار في كل مكان.. في بعض البلدان العربية، لاسيما في الجزائر، أمد احتضارُه الطويل في عمر التسيير من قِبل بيروقراطية الدولة للمبادرة الاقتصادية وفي خنقها وكذا خنق الديمقراطية في نهاية المطاف. إن بطء التقدُّم نحو اقتصاد السوق وبقاء نظام الدولة لاستغلال النفوذ وللإفساد، بالنتيجة، قد أصاب المجتمع بأكمله، من المواطن البسيط، الذي كان عليه أن يتعامل مع نظام كهذا بـ”المعريفة” لحلِّ مشاكله، إلى المسؤول السامي الإداري أو السياسي الذي كان يستخرج منه زبائنه.

يجب خلق الثروة للتمكن من توزيعها. في الجزائر، رغم تحقيق خطوات حقيقية وملموسة، خاصة في المجالات المستفيدة من اقتصاد السوق، لم يسمح مكبح اقتصاد الدولة ببلوغ نسب نمو كفيلة بالقضاء على بطالة الشباب ومواجهة الزيادة المعتبرة في معدل أمل الحياة.

هذا المعدل بلغ في الجزائر نظيره في البلدان المتقدمة (78 سنة)، وهذا يعدّ نجاحا عظيما. غير أن هذا النجاح أصبح – يا للمفارقة!- معضلة ترتد على المتقاعدين في شكل ظلم اجتماعي جديد. كان التقاعد، في القرن الماضي، لحظة في الحياة قد تكون قصيرة، لكنها لحظة هانئة، للترفيه، للسفر والحرية. اليوم، أصبح التقاعد مرادفا لضيق العيش والكبت والقلق. يشهد العالم كله مثل هذا التطور، كما يبدو من خلال النقاشات والنزاعات حول موضوع “عجز صناديق التقاعد” وإطالة سن التقاعد. وفي عددٍ من البلدان، مثل فرنسا مؤخرا مع حركة “السترات الصفراء”، يثور المتقاعدون على أوضاعهم. إنهم يحتجُّون ضد سياسات التقشف ويطالبون بتوزيع أعدل للدخل الوطني.

كان المتقاعدون، في الماضي، قوة محافظة وها هم، اليوم، يطالبون بالتغيير. لقد انضموا إلى احتجاج الشبيبة التي تعاني وضعا هشا أيضا وأصبحوا يشاركونها مظاهراتها جنبا إلى جنب.

 وجاء الإنترنت مكبِّرا لصوت هؤلاء الغاضبين الجدد ولصوت هذه المشاكل الجديدة. لقد جعل حرية النشر والتعبير في متناول الجميع، شيبا وشبابا، الذين يمثلون، على أقصى طرفي الحياة، مستعمليه الرئيسيين.

يؤدي الحَراك، الحَراكات الجزائرية، دور الواجهة لعرض مشاكل مجتمعنا في تطوره وعلى صلة بالعالم الحالي. لا يمكن تجاهل قضية المتقاعدين التي تتطلب حلولا عاجلة. إنها مقياس حال مجتمعنا على صعيد الصحة وصعيد التضامن الوطني، هذا التضامن الذي يتجاوز مجرد المطلب الأخلاقي لكونه بمثابة الناقل للوحدة الوطنية وحجر الزاوية فيها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!