-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خبراء يبيعون الكلام!

خبراء يبيعون الكلام!

مطلع هذا الأسبوع نشر الوزير السابق، والمختص في الاقتصاد الصناعي، عمار تو، مساهمة قيّمة على صفحات “الشروق”، حول نية الجزائر الدخول إلى مجموعة البريكس، سعى من خلالها بمنهجية علميّة للإجابة على الشروط الواجب استيفاؤها بهذا الصدد.

وكان لافتا في مقدمة المقالة قول الكاتب إن تصريح رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، المعلن في 31 جويلية 2022، لم “يستحثّ ردود الفعل الخبيرة من قبل اختصاصيين جزائريين في الاقتصاد، بغضِّ النظر عن تلك التعليقات السطحية التي لا تفيد تقييما لمدى قابليتها للتجسيد وللمنافع التي قد تعود على الجزائر من انضمامها إلى هذه المجموعة”، وهو ما دفع الوزيرَ إلى الإدلاء بدلوه في الملفّ بدافع تنوير أصحاب القرار عبر مقاربة اقتصادية سياسية علمية استنباطية، على حد تعبيره.

لسنا هنا بصدد التعليق على خيار الجزائر تجاه “البريكس” وهو قرارٌ مدروس بعناية ومحسوم إيجابًا، لكن كلام عمار تو يثير إشكالية حقيقية تتجلّى يوميا في المشهد الإعلامي الجزائري، وهي تهافت النخبة الأكاديمية على تحليل القرارات والسياسات العمومية من دون التزام أبجديات القراءة العلمية وفق التخصُّص، سواء كان الملف اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا أو أمنيّا… إلخ، حتى أضحت تدخُّلاتهم مجرد دعاية جوفاء لا يمكنها أن تفيد الجهات الوصيّة بالأفكار الداعمة ولا إقناع الرأي العامّ بالتوجهات الحكوميّة.

من الواضح، للأسف، أن كثيرا من “المحللين” المتصدرين في الساحة الإعلامية لا يهمهم احترامُ عقل المشاهد والقارئ ولا حتى المساهمة في الخدمة العموميّة، بقدر ما يبحثون عن الترويج لأنفسهم طمعًا في المناصب والمواقع والتقرّب من الإدارات الوصيّة، مع استثناء قامات جادّة، تضحّي بوقتها وجهدها وتقدّم آراء مُؤسّسة ومسنودة لإثراء النقاش الإعلامي، سواء بالتثمين والتسويق للإجراءات المحمودة أو النقد البنَّاء لاستدراك النقائص في كافة المجالات العامّة.

ليس مقبولا على الإطلاق، لا بمعايير التحليل العلمي ولا قواعد المهنة الصحفية، تمييع الوظيفة التحليلية في مرافقة السياسة العمومية، لتتحوّل من قراءة واعية تتأسس على المعلومات الموثوقة والمنهجيات التخصصيّة في التفسير والتقييم والتقويم والاستشراف إلى خطابات سياسويّة شعبويّة، لأنّ هذا الانحراف لن يكون فقط عديم الجدوى في إطار الصالح العام، بل سيكون مفعوله عكسيّا في تنفير الرأي العام، ويؤدي إلى توليد حالة من الشك المجتمعي وعدم الثقة.

ويزداد الأمر سوءا عندما يتعلّق الموقف بالتحليل الاقتصادي لحساسية الملف، ذلك أن الاقتصاد مؤشراتٌ دقيقة أشبه بعلم الرياضيات لا ينسجم مع لغة الإنشاء والحشو الخطابي في تجاوز الواقع، لكن ما نعيشه مناقض تماما لذلك، إذ نصادف ناقدين متشائمين تزعجهم المكاسب الحقيقية أو دعائيين تعوزهم أدوات الإقناع، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وبينهما يضيع التوازن الموضوعي المحايد والمتجرد من الأهواء الذاتيّة.

ومن عجائب التحليل في بلادنا أن تجد المتحدث “يفتي” في كل شيء حتى لا تعرف في أي مجال هو تخصصه، فهو يناقش في السياسة والاقتصاد والدبلوماسية والعلاقات الدولية وسواها، بينما المنطق هو أن يحاور في فنّه الدقيق تحديدا، لأنّ التخصص ذاته لم يعد حقلا عامّا، فإن تكلمنا مثلا عن الاقتصاد، فهو يشمل الصناعة والاستثمار والمالية والفلاحة والتنمية والتجارة والطاقة والتكنولوجيا وغيرها كثير، ولا يمكن للإنسان أن يكون ملمّا بها جميعا في أي بلد، إلا إذا كان من بائعي الكلام الفارغ الذين يهرفون بما لا يعلمون أو يردّدون عموميات لا قيمة لها من الناحية التخصصيّة، بل هي أقرب إلى أحاديث المقاهي والطرقات.

لا شكّ أن الإعلام يحمل وزرًا نسبيّا في تكريس هذه الرداءة، لأنه مسؤول عن تحديد متدخّليه، والأوْلى به الاجتهاد في انتقاء ضيوفه، عوض العمل مع الأشخاص الجاهزين بغضّ النظر عن شروط الأهليّة.

ومع بروز ظاهرة التواصل الاجتماعي، فقد انتقلت آفة حبّ الحديث من “البلاطوهات” إلى البث المباشر، حتى طغى على وعي المجتمع “المؤثرون الرقميون” الذين تحوّلوا فجأة إلى وعاظ ومرشدين ونفسانيين ومؤرخين، بضاعتهم حذق الكلام ومؤثّرات الصناعة الرقمية، ومع ذلك فهو يستهوي شرائح واسعة لمحدودية ثقافتها أو كنتيجة لقاعدة “الطبيعة تأبى الفراغ” في غياب المبادرة من أهل الاختصاص والكفاءة.

نعم نحن بحاجة ماسّة إلى من يدافع عن سياسات بلادنا وينوّر الرأي العام بمكاسبها وآفاقها ليغرس الأمل في نفوس المواطنين بخصوص المستقبل، كما نحتاج الآراء الرصينة من النخب المختصّة بهدف مساعدة السلطات العمومية في بناء قرارها السياسي والإداري أو تصويبه، لكن في كل الأحوال ينبغي التقيُّدُ بقواعد الدقّة والبحث والمنهجية، واحترامُ عقول الناس، لتكون الأفكار المعبَّر عنها ذات طابع علمي وموضوعي، بعيدا عن التهريج الإقصائي أو الدعاية التي لا سند لها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!