-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خصوصية النقد الأدبي عند العرب

خصوصية النقد الأدبي عند العرب

ما كُتب في مجال اللغة والأدب إبان النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم يربو على مقدرة القارئ المعاصر المتخصص في ميدان اللغة والأدب. وتشظي العلوم اللغوية وتباين مدارسها وكثرة انفتاحها على العلوم المرجعية يجعل الباحث في النقد المعاصر يحار في الاختيار والترجيح، فتراه متبصرا في أمره حينا، إمّعة أحيانا.

كان انبثاق البحث في الإعجاز، وما أدى إليه من بحث وتعميق في اللغة والأدب، مبعثه من قضية كلامية بين علماء العقائد، ارتبطت بحقيقة القرآن الكريم، هل المزية فيه للمعنى اعتقادا بأن الكلام عبارة عن معنى قديم قائم في النفس، كما قال أهل السُّنة؟ أم أن المزية للّفظ تماشيا مع عقيدة الاعتزال القائلة إن كلام الله تعالى “مخلوق”، وهو عبارة عن ألفاظ القرآن الكريم وأصواته؟

ما كان النقدُ الأدبي ليشذَّ عن ظاهرة الاستغراب التي يعاني منها الواقع المعاصر للأمة العربية والإسلامية، وقد بدت على محياه -وربما أكثر من غيره من الفنون الأدبية- مظاهر الحيرة والتخبط والقلق. وكم كان المرحوم الأستاذ الدكتور الناقد إحسان عباس صادقا وشفافا كعادته، عندما حدثته -في لقاء جمعني به في بيته ببيروت- عن هذه الحال وعما لمسته من استحياء لدى بعض أساتذة اللغة والأدب في الجامعة من أن يوسَموا بالتقليد إن هم أنكروا شيئا مما في الدراسات اللسانية الحديثة أو ردّوه؛ فتراهم يقبلون بلا نقاش أو تمحيص كل ما وقع في أيديهم من نتاج غربي حديث… فقال لي الرجل (رحمه الله): “بل الأمر أشد من الاستحياء، إنه خوفٌ وخشية من قولهم: هذا تقليدي، وأنا واقع في هذا أيضا مع الأسف الشديد.. والأمر مرهونٌ تصحيحه بثلة من المثقفين راسخة في تراثها مطلعة على حداثة عصرها، لا يضيرها أن تأخذ من هذا إلى ذاك، أو أن تعطي هذا من ذاك”.

النقد موقفٌ من الأدب، ينطلق من الذوق ويتسلح بالدليل. وهذه الأقانيم الثلاثة (الموقف والذوق والدليل) هي مدار النقد الأدبي على الدوام، وهي في حال تلاقيها تنتج عملا أدبيا يوازي النص الشعري أو النثري الذي تقارب، ويبقى المستوى الفني للنصين منوطا بالإحسان والتجويد، الذي يرفع العمل أو يحطّ منه، يبقيه حيًّا متداولا بين القراء أو يدسّه في رفوف النسيان.

الفكرة القائدة في مسيرة النقد العربي

سيطرت فكرة البحث في الظاهرة القرآنية بداية التاريخ الإسلامي على الثقافة العربية، لما في هذه الظاهرة من انزياح هيمن، على غير المعتاد، على البيان العربي، وملك على أساطين العربية عربيتهم؛ فتوجهت تأملات الأدباء مذّاك إلى دراسة سر هذا الإعجاز في هذا النص الجديد، الذي يتلوه عليهم نبيُّ قرشي يعرفون أنه لا ينطق إلا بلسان عربي مبين.

وقد كان انبثاق البحث في الإعجاز، وما أدى إليه من بحث وتعميق في اللغة والأدب، مبعثه من قضية كلامية بين علماء العقائد، ارتبطت بحقيقة القرآن الكريم، هل المزية فيه للمعنى اعتقادا بأن الكلام عبارة عن معنى قديم قائم في النفس، كما قال أهل السُّنة؟ أم أن المزية للّفظ تماشيا مع عقيدة الاعتزال القائلة إن كلام الله تعالى “مخلوق”، وهو عبارة عن ألفاظ القرآن الكريم وأصواته؟

ويبدو أن الجدل حول القرآن وإعجازه بقي حيا حتى العصر الحديث، حينما تجدد مع أدباء النهضة بشكل بعث الأدب والنقد مبعثا جديدا، حبّذه الناس واستبشروا به خير استبشار، تبدّى في اهتمام لافت بالأدب الحديث وبأدبائه، فمثّل دعاةَ المزية للّفظ عبد العزيز البشري، ومثّل دعاةَ المعنى عباس محمود العقاد، أما دعاةُ النظم فقد كان على رأسهم طه حسين.

استطاع عبد القاهر الجرجاني، الناقد المتميز في طرحه قديما، أن يجترح خطّا وسطا بين مدرستي اللفظ والمعنى، فرأى خلاف ما رأى سابقوه. ثم استقرت الدراسات النقدية على اكتشافات الجرجاني ولم تجاوزها إلا تطبيقا لنظريته على تفسير القرآن الكريم، كما فعل الزمخشري في “كشّافه”، أو تقعيدا لرؤاه كما فعل علماء البلاغة ممن جاء بعدهما؛ حتى قعدت البلاغة عن إثراء النقد فقعد معها، ولم يتجاوز نطاق تطبيقاتها، حتى لاحت في أفق الدراسات الأدبية واللغوية نظريات النقد الحداثية الوافدة من الغرب، فحركت الساكن من تراثنا ودفعته في اتجاه لم نستبن سبيله إلى الآن.

وبعد أن كانت الدراساتُ اللغوية والأدبية تحوم حول النص القرآني ومن ورائه نصوص بعض الشعراء والأدباء، أصبح النقد العربي الحديث -تنظيرا وتطبيقا- يدور حول نصوص هؤلاء الشعراء والأدباء بمنأى عن النص القرآني؛ مما أفقد الدّرسَ النقدي العربي شرعيتَه وأصالته، وأفقده هويته التي حافظ عليها طيلة القرون الهجرية الأولى، وجعله يسير في فلك النظريات الغربية الجديدة.

أزمة النقد العربي الحديث

إنَّ الأزمة التي بات النقاد العرب وقراؤهم يواجهونها على الدوام، تمثلت في هذا المنحى من التطور للنقد العربي، الذي أخرج دراساتهم كلها من تلك المسيرة الطويلة المظفرة إلى سبيل مختلف تماما، سبيل لم يستطيعوا عبره إيجاد التواصل مع التراث؛ لاختلاف المفاهيم بين ماضيهم وحاضرهم. كما أنَّ إحساسا طغى على هؤلاء النقاد الجدد، لم يستسيغوا به أن يصبحوا مقتاتين على موائد النقاد الغربيين، كيلا أقول إنهم باتوا ضحايا فكر ذي جذور فلسفية لها خصوصيتها الفارقة، تقاذفت عقولهم الناقدة هنا وهناك، ولا عاصم لهم حتى اليوم من هذه الدوامة المتمادية في الفكر والنقد، التي تترى عليهم من كل حدب وصوب. ولم يلح لهم في الأفق مخرج منها، أو يطل عليهم شاطئ نجاة.

كان للثورة اللسانية الحديثة، في مجال اللغة والأدب، إرهاصاتٌ تراكمت منذ أن بدأ الدرس اللغوي عند اليونان يأخذ منحى تقعيديا، يهتم بما يسمى النحو، ومرورا بطور ثان تفتحت فيه عقلية الغربيين على الفيلولوجيا، في القرن 18م، ومعناها يقترب أكثر من مفهوم التحقيق، أي ضبط النصوص وتأويلها والتعليق عليها؛ ليسلّمهم هذا إلى الفيلولوجيا المقارنة، إذ عني فيها علماء اللغة بإبراز الوشائج والعلاقات بين لغات أوروبية وأخرى هندية. وإحساس هؤلاء الدارسين بأن هذه الوشائج والعلاقات يمكن أن تكون علما قائما بذاته، أسهم في ظهور درس ألسني حقيقي عند الغرب حديثا، عرف تشكل معالمه الأولى مع الدكتور “فردينان دوسوسير” (1857- 1913م).

إنَّ ما يمكن لحاظه في نشأة النظريات النقدية لدى الغرب، يمكننا قوله هنا أيضا ونحن نتحدث عن نظرية المعنى والمبنى والنظم، التي كانت ترسم خط النقد الأدبي عند أساطينه الأوائل.. ولو شاء القارئ أن يغمض عينه عن تلك الجذور الكلامية لهذا الاختلاف النقدي لما فهم كثيرا مما يقوله الجاحظ عن المعاني الملقاة في الطريق، أو ما يقوله الشيخ أبو عمرو الشيباني في استحسان المعنى، أو الجرجاني في تفضيل النظم، فلكل هؤلاء فلسفة يستبطنها وينافح عنها وهو يقارب النصوص الأدبية.

واللافت حقا أن مدارس ثلاثا كهذه قد صاغت تنوُّعا في الأدب يأنسه الناقد ويطرب إليه، ويسعى جهده لأن يتروّى منه، من دون أن يجد في نفسه صبابة لمقاربات من نماذج أخرى، تخرج عن هذا الموروث الأدبي المتكامل فكريا وفنيا؛ ولعل التفسير الأولي لهذه الظاهرة، أن الإشباع الثقافي الذي حصل للنقاد القدامى من خلال توليفة من معارف مؤتلفة في عقولهم وقلوبهم تلقوها في مطلع دنياهم، ثم دراستهم باقتدار وروّية الظاهرة القرآنية جعلهم، كما جعل غيرهم من فقهاء ومفسرين، ينفقون زهرة الحياة الدنيا في هذه المتعة الروحية والعقلية والوجدانية، أغنتهم عن بذل المزيد فيما عداها، وما عداها ذاب في تنور معارفهم واهتماماتهم تلك، وغدا جزءا لا يتجزأ من مشروعهم النقدي بأكمله.

ترى، هل يصدق ما قلناه سابقا على ما بين أيدينا اليوم من مدارس حداثية شتى في النقد الأدبي؟ وهل نجد أنفسنا مغنين بها نصيبا عن ذلك الإرث النقدي العربي، الذي لا نزال نتصيد له الساعات تلو الساعات، ونستمتع بما اندلق على صفحاته من عبقريات، نستضيء من أنوارها في ما هو آت من أمواج متلاطمات؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!