الرأي

خلفيات تصنيع موجة رديفة للجائحة

حبيب راشدين
  • 2486
  • 6
ح.م

حتى الآن، يكون وباءُ كوفيد 19 قد أدَّى مهامَّه بامتياز، وما زال يحتفظ بـ”فائض قوة” في خدمة الحكومات، والنُّخب المهيمنة في العالم، التي وظَّفته ببراعة في ترويض الشعوب، وحملها على تقبُّل إجراءات حجر غير مسبوقة في التاريخ، وتميز عن الأجيال السابقة من الأوبئة الفيروسية بقدرة خارقة لمقاومة تقلب المناخ، نراه يعبر بسهولة خطوط العرض والطول، ويجتاح الجغرافية التقليدية للأنفلونزا، ويصمد أمام حرارة الصيف على غير العادة، ليستمد منها الطاقة الكافية لجولة ثانية، تقول المنظمة العالمية للصحة إنها تعِد بكارثة غير مسبوقة في الدول النامية.

 ومع أن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كانت أوفر حظا، بمنسوب إصابات متدن، قياسا مع جيرانهم في الشمال والشرق، فإن حكوماتنا كانت أكثر صرامة في تعاطيها مع الوباء، بإجراءات غلق مشددة، حظيت بمباركة المنظمة العالمية للصحة، ووظفت الوباء بكفاءة في استعادة السيطرة على شعوبها، وصرفها عن تتبُّع أخبار باقي الأوبئة التي تنخر الجسم العربي، من النهر إلى المحيط، حتى لم يعد ذكرٌ للمأساة السورية، ولحرب اليمن، وللتكالب الدولي على نفط وزفت ليبيا، وخاصة يكون الوباء قد رفع الحرج عن الحكومات العربية تجاه القضية الفلسطينية، في وقت يستعدُّ فيه الكيان لضم غور نهر الأردن، وتنفيذ “صفقة القرن” من جانبٍ واحد.

وعلى مستوانا المحلي، كانت بضعة آلاف من الإصابات، كافية لمنح حكومة السيد جراد الأولى فرصة العمل خارج أي ضغط من الشارع أو من الطبقة السياسية، ولم تتردد لجنة رصد الوباء في منح الحكومة الثانية فرصة لشغل المقاعد وتسخينها، على الأقل حتى منتصف الشهر السابع، وقد يُشغلنا الإغلاقُ الجزئي الثاني عن التعلق بتلابيب الحملة التي انطلقت في الفضاء الأزرق ضد مسودَّة تعديل الدستور، وألغامها التي قد يُرحَّل قرارُ تفكيكها أو تفعيلها إلى ساحة فحص متحكم فيها داخل البرلمان، نهاية السنة أو مطلع السنة القادمة.

غير أن التحليل السياسي لجائحة كوفيد 19 يبقى مرتهنا في المقام الأول بمصير “أمّ المعارك” الدائرة في الخفاء، بين من يريد توظيف الجائحة للإجهاز على الاقتصاد العالمي المترنِّح أصلا، وبناء نظام عالمي جديد، يتقاسم فيه الشرق والغرب مواقع القيادة، وبين من يريد تحميل الجائحة كامل المسؤولية عن إخفاقات نظام عالمي قد بلغ أرذل العمر، ووُضع منذ أزمة الرهن العقاري سنة 2008 تحت جهاز التنفُّس الاصطناعي، مدعوما بضخِّ آلاف المليارات من النقد المطبوع، ويراهن الطرفان على لحظة حسم قادمة في الرئاسيات الأمريكية، شهر نوفمبر القادم.

في هذه المعركة، لم تنجح الجائحة ومن يقف خلف تغذيتها إعلاميا في إضعاف الرئيس الأمريكي، حتى وإن كانت الجائحة قد بدَّدت رصيده من الانجازات الاقتصادية، فاحتاج أربابُ العولمة إلى تفعيل جائحة رديفة، رفعت راية كاذبة اسمها “حياة السُّود مهمة”، في نظر مصفوفة عالمية حوَّلت جميع البشر إلى عبيد، ولم تتردَّد في تحريض الملوَّنين على الشعب الأبيض “المستضعَف”، إذا كان ذلك ينفع في ترحيل رئيس قد أخلط أوراق لعبة الأمم، كما لم يفعل ذلك أيُّ زعيم عالمي من قبل.

يقينا؛ ليس بأيدينا إنتاج أي تقدير ذاتي للجائحة، كيفما كانت الشعارات التي ترفعها حكوماتنا حيال استقلالية القرار السيد، وسوف ننتظر مع بقية دول وشعوب العالم نتائج “أمِّ المعارك”، وقد رُفع عن حكوماتنا الحرج، في زمن أسكِت فيه صوتُ المنظمات الحقوقية التي كانت تجلدها صباحا ومساء، لما هو دون ما تقترفه اليوم جميع حكومات العالم، من انتهاكات لحقوق الإنسان، وقد ساقتنا من غير مقاومة لدخول خمِّ الدواجن، وكمَّمت الأفواه وقيَّدت الحركة، وحرَّمت السعي الاضطراري لتدبير القوت اليومي، حتى لم نلتفت معه إلى تعطيل السعي بين الصفا والمروة، وبداية تعطيل الحج إلى بيت الله، كما فعل القرامطة من قبل.

ثمة حقيقة لا يمكن لهذه العصابات التي تعبث بمصير البشر خلف الستار أن تزيِّفها، وهي أن حصيلة ستة أشهر من وباء عادي، رُقِّي بليل إلى مصاف “الجائحة”، لا تزيد عن نصف مليون ضحية، أي حوالي 1,8 في المئة من إجمالي عدد الوفيات في الشهور الستة الماضية، حسب تقديرات موقع “وورلد ميتر” هي أقلّ من متوسط الوفيات، التي تُنسب سنويا إلى الأنفلونزا الموسمية.

مقالات ذات صلة