-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خير الدين سعيدي يرصد الواقع الصحي للجزائر في الفترة العثمانية

د. حسين بوبيدي
  • 1258
  • 0
خير الدين سعيدي يرصد الواقع الصحي للجزائر في الفترة العثمانية

في هذه الظروف الاستثنائية التي تعيشها الإنسانية بسبب انتشار وباء كوفيد 19، وما خلّفه من آثار صحية واجتماعية واقتصادية وسياسية ستكون دون شك بمثابة منعطف بارز في التاريخ المعاصر، تتدعم المكتبة التاريخية الجزائرية بعمل رصين أصدره الباحث الجزائري: الدكتور خير الدين سعيدي عنوانه: “الأوبئة بالجزائر العثمانية خلال القرن الثامن عشر والثلث الأول من القرن التاسع عشر”، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه نوقشت بجامعة 8 ماي 1945 بقالمة سنة 2019.

تبرز قيمة العمل لمن يطالعه من قائمة مصادره، إذ تظهر النزعة الأرشيفية التي تدل على حفر عميق وتتبُّع دقيق للأوضاع الصحية بالجزائر في عهدها العثماني، إذ وظف الكاتب كمّا هاما من وثائق الأرشيف العثماني الموجود في تركيا (أرشيف رئاسة الجمهورية بإسطنبول B.O.A)، والذي عاد فيه إلى وثائق تتعلق أساسا بالقضايا الصحية في مختلف الإيالات العثمانية، بالإضافة إلى الأرشيف العسكري، والأرشيف المالي، وغيرها… كما استند إلى الوثائق التي تعود إلى هذه المرحلة في الأرشيف الفرنسي؛ والذي تضمَّن مادة هامة من مراسلات القناصلة وغيرها من الوثائق ذات الصلة، بالإضافة إلى المصادر المخطوطة والمطبوعة التي كُتبت في المرحلة محل الدراسة أو قريبا منها، سواء للجزائريين أو لمذكرات الأسرى والقناصل الأوروبيين، موظفا دراسات عديدة تناولت الأوضاع الصحية بالجزائر في العهد العثماني بمختلف اللغات. هذا التنوع سمح للدكتور سعيدي بتقديم دراسة عميقة وشاملة تجعل القارئ يعيش داخل المجتمع الجزائري وهو يمرُّ بأزمات صعبة في ظروف لم يكن يمتلك فيها من الإمكانات ما قد يتوفر لأحفاده في القرن الواحد والعشرين.

عالج الكاتبُ قضية الأوبئة والمجتمع الجزائري في الفترة العثمانية في مدخل وخمسة فصول، عمل من خلالها على تقديم إحاطة كاملة بموضوعه، إذ خصص المدخلَ المفاهيمي لتبيان دلالات المصطلحات الأساسية التي يقوم عليها العمل (الوباء، الطاعون، وذكر أنواعه)، سواء من خلال تعاريفها العلمية المعاصرة، أو بحسب تصورات الناس حولها في المرحلة المدروسة، وهو ما نسميه بتاريخ الأفكار والذهنيات، والذي بناء على تلمّسه يمكن تفسير طريقة تعاطي المجتمع مع هذه الأمراض، وهذا ما ستكشف عنه فصول الدراسة عند متابعتها، كما تابع الباحث ما كُتب من المؤلفات المصدرية التي تناولت الوباء، وأعطانا تصوّرات النخبة المجتمعية حولها، ويمكننا أن نلمس بجلاء أنها مثلت امتدادا لتلك الذهنية الوسيطية، والتي طغى على السطح فيها التفسير الغيبي، لكنها فتحت المجال لدخول الجدل العلمي في الموضوع.

في الفصل الأول من الدراسة؛ والذي عنوانه: معالم الحياة الصحية لساكنة الجزائر، سيقدِّم لنا الكاتب تبيانا للوضع الصحي للجزائر العثمانية من خلال الاستناد إلى الكتابات التاريخية الغربية التي رصدت الأزمات الغذائية والصحية في الجزائر على العهد العثماني، وانطلاقا منها سيقوم بوضع خريطة جغرافية لانتشار الأوبئة، وسينزل بالتاريخ إلى القرن السادس عشر لمتابعة الأزمات الغذائية والمجاعات والأوبئة ومناطقها، وما ترتَّب عنها من أزمات ديمغرافية واقتصادية، وسنتعرّف في هذا الفصل على المدن الحاضنة أو مدن التوطن الوبائي، والتي كان الوباء يظهر بها ثم تمارس دور الناقل إلى المناطق الأخرى، وفي مقدِّمتها مدينة الجزائر، ثم عنابة وقسنطينة ووهران، أما المدن التي كانت تحتضن الوباء مع أنها لم تكن مركز انطلاقه فسمّى منها: بسكرة، وتلمسان، بينما كان الوباء في مدن أخرى أقل حضورا مثل: جيجل، بجاية، معسكر، مستغانم، البليدة، القل، والمناطق الصحراوية.

تناول الفصل الثاني من الكتاب: أسباب الأوبئة وبيئتها بالجزائر العثمانية، وقد ناقش الكاتبُ فيه مختلف الآراء التي تم طرحها حول الأصل المحلي أو الوافد للوباء، إذ عالج قضية المناخ والنظافة وسوء استغلال موارد المياه وغيرها من الأسباب التي قدمتها الآراء التي اعتبرت الجزائر موطنا للوباء، بينما يرى أصحاب الموقف الثاني أن الجزائر بلدٌ مجلوبٌ له الوباء وليس منطلقاً له، مبينا أن مدنا مثل القسطنطينية ومرسيليا والإسكندرية وغيرها، هي المحطات التي انتقل الوباء منها إلى المدن الجزائرية الساحلية ثم توسع إلى غيرها، وذلك من خلال العلاقات التجارية مع أوروبا، أو قوافل الحج مع المشرق، أو الصلات مع العاصمة العثمانية، وقد أشبع الباحث هذا الفصل تحليلا لأسباب التباين في التأثر بالوباء، مرتكزا بالأساس على حركية السكان، وطبيعة العلاقات الخارجية للمدن الساحلية، حيث سيمثل الميناء أحد أهم مراكز وصول الطواعين للجزائر.

في الفصل الثالث الذي عنوانه: حوليات الأوبئة بالجزائر 1700-1830، سيأخذنا الكتابُ إلى متابعة تاريخية للأوبئة في الفترة المدروسة، ومن خلال لغة الأرقام سنتمكّن من تقسيم الإطار الزمني المدروس إلى فترات متباينة من حيث مستوى حضور الأوبئة بالمدن الجزائرية، والحالات التي مثّلت الجزائرُ فيها حالة استثنائية من المرض رغم حضوره عند جيرانها، كما سنكتشف الفوارقَ في المدة التي يستمر فيها الوباء، والاستمرارية في بعض الحالات والانقطاع في أخرى، وبلغة الأرقام دائما سنتابع في هذا العمل الإحصائيات حول الوفيات، وقد حوّلها لرسوم بيانية تسهِّل إدراك طبيعة الوضع الصحي وتحولاته وآثاره.

لقد سمى الباحث الفترة بين سنتي: 1756-1785 بسنوات العافية لاستقرار الأوضاع الصحية بإيالة الجزائر، وبعد عودة الأوبئة للظهور ستختفي من جديد في الفترة: 1788-1792 من دون أن يعني ذلك غياب الأزمات الأخرى، وبعد أن تجدد منذ 1792 لعدة سنوات، واختلفت آثاره حسب السنوات والمناطق التي مسها، عادت العافية للمجتمع الجزائري بين سنتي: 1804-1816، ثم وجد نفسه أمام هجمات جديدة انتهت بالوباء الأعظم والطاعون الأخطر وهو الاستعمار الفرنسي.

لقد سمى الباحث الفترة بين سنتي: 1756-1785 بسنوات العافية لاستقرار الأوضاع الصحية بإيالة الجزائر، وبعد عودة الأوبئة للظهور ستختفي من جديد في الفترة: 1788-1792 من دون أن يعني ذلك غياب الأزمات الأخرى، وبعد أن تجدد منذ 1792 لعدة سنوات، واختلفت آثاره حسب السنوات والمناطق التي مسها، عادت العافية للمجتمع الجزائري بين سنتي: 1804-1816، ثم وجد نفسه أمام هجمات جديدة انتهت بالوباء الأعظم والطاعون الأخطر وهو الاستعمار الفرنسي.

وقد خصص الكاتب الفصل الرابع للبحث في: موقف السلطة والفئات الاجتماعية من الأوبئة، وفيه نكتشف العلاقة الوطيدة بين العقل الجمعي وكيفية تفسيره لأسباب الوباء والوقاية منه، وبين الإجراءات التي كانت تعتمدها مختلف الفئات في جهاز السلطة وفي المجتمع من أجل تلافي أخطاره والحدّ من توسُّعه، وتأتي هنا ملاحظة الباحث على أن السلطة كانت تكتفي في كثير من الأحيان بموقف المشاهد والمتابع للوضع والراصد من بعيد لمآلات الأمور من دون إي إجراءات إحترازية، مع أنه كان يمكنها من خلال آليات الوقاية والعزل أن تحاصر انتشار الوباء وتخفض الإصاباتِ به، بل إن داي الجزائر – في إحدى الحالات- تسبَّب بحلول الكارثة الوبائية بالمدينة رغم التحذيرات التي تلقاها من القناصل الأوروبيين بسبب مفهومه الخاطئ للقضاء والقدر، بينما نجد نماذج معاكسة لهذا التوجُّه، فالداي محمد بن عثمان خوجة وصالح باي حاكم قسنطينة كانت لهم ممارسات في اتجاه العمل على صدّ الباب أمام الوباء بمنع إفراغ حمولة السفن، أو منع الوباء من التوسع عبر منع السفر والتعامل مع المناطق المتضررة منه، وفي الوقت الذي نكتشف في هذا الفصل حرص أعيان المدن على توقي الوباء واتخاذ الاحتياطات منه، فإن عامة الناس كانوا أكثر استسلاما وسلبية في التعامل مع هذه الحالات بسبب الخلفية العقلية التي تعتبر الوباء قدرا محتوما لا يمكن الفكاكُ منه، وعبر النماذج التي يقدمها المؤلف حول موقف رجال العلم الشرعي في تلك الفترة ما يسمح بفهم العقل الجمعي باعتبارهم الفئة التي تؤطره، ولم يفت الكاتبَ أن يتعرض لطبيعة تعامل اليهود والنصارى من السكان والتجار مع الطاعون عاقدا مقارنة مع أعيان وعامة المسلمين.

كان الفصل الخامس والأخير من الدراسة حول: انعكاسات الأوبئة على أوضاع الجزائر العثمانية، إذ سيضعنا الدكتور سعيدي أمام الأثر الذي خلفته موجات الطواعين على الحياة في مختلف تمظهراتها، سواء ما مسّ الجانب الاقتصادي ومعيشة الناس التي عانت من اضطرابات تجارية وحِرفية كبيرة، وندرة في السلع وارتفاع كبير في الأسعار، وخاصة الفئات الهشة التي عجزت عن إيجاد بدائل لطريقة تحصيلها ما كانت تسد به رمقها، وهكذا أفنى الموت عددا كبيرا من العامة والأسرى والعبيد ومختلف الفئات التي تعيش على هامش المجتمع، لكن ذلك المصير لم يخصّها وحدها، بل بلغ إلى الجند في الثكنات، والأعيان في قصورهم، وأزهقت أرواح العديد من الفقهاء والمدرِّسين، وخاصة إذا استحضرنا العجز في المراكز الاستشفائية وتخلف الطب في تلك الفترة، وعدم مواكبة النظرة العلاجية للتطوُّرات التي كانت تشهدها أوروبا يومها.

إن كتاب الدكتور سعيدي بقدر ما يؤرخ للصحة والمرض، والعافية والوباء، فإنه دراسة بالغة الأهمية في تاريخ الذهنية الجزائرية، وصورة للعقل الجمعي وما كانت تعتمل فيه من مفاهيم وتصورات ورؤى للحياة والموت، وحَفرٌ عميق يكشف بعض ملامح التخلف العلمي في المجتمع الجزائري في فترة كانت الجزائر بمثابة “دار الجهاد” القائمة بمسؤولية حماية الإيالات العثمانية في شمال إفريقيا من الهجمات الأوروبية المسيحية، لكن هذا الجهد العسكري، والتضحيات الكبيرة لم تسايرها حركة علمية تحمي “دار الجهاد” من المخططات التي كانت تستهدفها في الضفة الشمالية من البحر المتوسط.

الكتاب إضافة مميزة للمكتبة التاريخية الجزائرية، يفيد الباحث المختص والقارئ المهتم، وهو حريٌّ أن يكون في مؤسساتنا العلمية والثقافية ومكتباتنا الخاصة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!