دار الكتب المصرية ومكتبة الإسكندرية بين الفئران والسياحة
ضحكت وأنا مندهش لما رواه لي شاهد فرنسي تولى لفترة معينة متابعة مشروع إنشاء مكتبة الإسكندرية، قبل افتتاحها. وسأحتفظ بسرية اسمه الذي يبدأ بحرفي “G.G” وهي شخصية ترأست واحدة من أهم مكتبات باريس إن لم تكن أهمها على الإطلاق. قال لي بكثير من الحزن والسخرية واللؤم:
-
“في القاهرة وفي دار الكتب، أي المكتبة الوطنية المصرية، رأيت بأم عيني ما لا يخطر على بال عاقل في القرن الواحد والعشرين، رأيت شيئا ما بين الخرافة والحقيقة، فبينما أنا أشرف على إدارة مشروع مكتبة الإسكندرية بتكليف من المجموعة الأوروبية التي كانت تمول وتشرف على هذا المشروع الثقافي الهام والذي يعد دون شك واحدا من محطات ذاكرة الإنسانية المتميزة. وأثناء إقامتي بمصر وأنا المنشغل والمشغول دوما بالكتاب والقراء وتاريخ الأفكار، كان علي أن أزور دار الكتب المصرية بالقاهرة، فعقدت العزم ذات يوم للزيارة، واستقبلت بها استقبالا شرقيا رقيقا، وبمجرد دخولي مبنى دار الكتب، فإذا بي أكتشف أسرابا كبيرة من القطط تجول وتصول، حين رأيت القط الأول قلت هذه صدفة قد تحدث في أحدث المكتبات العالمية، وكم وجوده لطيف ومؤنس، لكني حين أمعنت النظر اكتشفت أن عدد القطط داخل مبنى دار الكتب عدد هائل ومثير، وكأن المكتبة مأوى لقطط القاهرة الضائعة. إدارة المكتبة مشكورة كانت قد برمجت لي زيارة لأجنحة هذه المؤسسة العتيقة التي تولى إدارتها في الخمسينيات من القرن الماضي صاحب “عودة الروح” و”عصفور من الشرق” الكاتب توفيق الحكيم (1898 ـ 1987)، وتولى إدارتها أيضا الناقد الدكتور صلاح فضل، وحين بدأنا الزيارة شعرت بنوع من الحرج لدى القيمين عليها، في البداية أراد دليلي في الزيارة أن يمر بي بممرات تكون أقل سكنا للقطط، ومع ذلك كانت القطط الهزيلة منها والسمينة والحامل، والطارد التي يتخاصم عليها الذكور في هذا القسم أو ذاك، كانوا يقطعون طريقنا بروائحهم وموائهم، كان منظر القطط محيرا ومخيفا في الوقت نفسه، وانتهت زيارتي، أدرك دليلي حيرتي وعدم إمكانية تفسير هذا الوجود الغريب والمكثف للقطط في هذا المبنى الذي من المفترض أن يكون صورة مثلى لأكبر وأهم مؤسسة للكتاب في هذا البلد، وبدوري أدركت أنا أيضا حيرة دليلي إذ لم يجد طريقا سالكا لكي يشرح لي سبب ظاهرة الوجود المكثف لهذه الساكنة الغريبة في مبنى يفترض أن يكون للقراء والباحثين. مبنى كان يدريه توفيق الحكيم!!!!
-
ولم أستطع بلع سؤالي ونحن ننهي الجولة لبعض أقسام المؤسسة، إذ سألت دليلي وقد أدركت أنه ينتظر مني السؤال، دون شك فهذا السؤال يكون قد طرح عليه عشرات المرات، لكني وكي لا أحرجه فقد صغته في كثير من الخبث واللؤم الثقافيين الفرنسيين قلت له: أعتقد أن دار الكتب المصرية فندق لقطط القاهرة كما هي المقابر سكنا لأحيائها يتقاسمونها مع الأموات، ثم أضفت مازحا وبخبث أيضا: كنت أعتقد أن أحفاد مكتبة الإسكندرية العظيمة من البشر هم وحدهم أكثر بني البشر حبا وتقديسا للكتاب والمكتبات لكن تبيّن لي اليوم أن قططهم بكل أشكالها هي أيضا من القراء المداومين على المكتبة وأرصدتها. يبدو أن عدد القطط يفوق عدد المنتمين إلى دار الكتب؟
-
ضحكنا، ولكنه أدرك وبدهاء مصري عريق حجم “التهكم” في تعليقي “الخبيث” وربما الخارج عن لياقة الزيارة، وأنا المسئول الأول عن واحدة من أهم مكتبات باريس، إن لم تكن أهمها على الإطلاق والمسئول عن مشروع مكتبة الإسكندرية.
-
ولكن دليلي أزاح عني غشاوة حيرتي مفسرا لي سر الوجود المدجج عددا وعدة للقطط في فضاء يفترض أن يكون محجوزا فقط للأذكياء من ناس القاهرة، أي من القراء والباحثين والفهماء، قال دليلي:
-
“إننا يا مسيو G.G نربّي هذه الجيوش العرمرم من القطط في دار الكتب المصرية لا لتقرأ!! ولكن لاستعمالها في القضاء على الفئران والجرذان وجميع القوارض التي جاءت على كثير من الوثائق وتهدد الكثير من الكتب والمخطوطات الثمينة، إن الوسيلة الوحيدة، في غياب الإمكانات، التي نعتمد عليها في محاربة القوارض هي تربية القطط التي لا تكلفنا أي جنيه، فأكلها من صيدها وصيدها كثير وسمين ومتعدد”.
-
تجلت حيرتي، ولكن حيرة أخرى أعظم انتصبت في رأسي، متمثلة في سؤال جريح ومؤلم هو التالي: كيف يمكن لبلد يحرص على كتبه ووثائقه من التلف عن طريق تربية القطط!! كيف لهذا البلد أن يعيد إلى الحياة مكتبة كانت ذات زمان مهد العلم والفلسفة، ويحافظ عليها؟ سكنني شك المعرفة.
-
صديقي اللئيم “G.G” أنهى حكايته الطريفة مع دار الكتب المصرية بالتعليق قائلا: أشعر أن مشروع مكتبة الإسكندرية مشروع سياحي بالأساس، وأن لا علاقة له بالثقافة المستقبلية الجادة والمتحررة والمحررة التي يبحث عنها العالم المتوسطي، إنه، دون شك، يشكل ورقة سياسية وازنة للاستجداء التاريخي في يد مصر الممدودة لدول الاتحاد الأوروبي وأمريكا وإسرائيل. وهي ورقة رابحة ماديا.
-
وبعد سنوات، وأنا أقرأ أحد التقارير الدولية عن حريات وحقوق القارئ في البلدان العربية والعالم الثالث بشكل عام، من خلال هذا التقرير تم رفع إنذار أو تحذير لمكتبة الإسكندرية لما تمارسه من رقابة وحجز على حريات الكتاب وحرية القراءة والقراء، تذكرت صديقي “G.G” اللئيم، وقد أشار التقرير في بعض فقراته إلى أن مكتبة الإسكندرية التي يفتخر بها بعض أشباه المثقفين السياحيين من العرب والأوروبيين تمنع تداول بعض الكتب ومن بينها مؤلفات الفيلسوف فولتير بحجج تشبه حجج الدعاة الإسلامويين، كحجة الإساءة للدين أو الخروج عن الفتوى، ويشير ذات التقرير إلى الخوف من تحول فضاء مكتبة الإسكندرية الذي يحمل كثيرا من رمزية التفكير الإنساني الحر إلى فضاء سياحي من خمس نجوم.
-
* الحلقة القادمة: الأمير عبد القادر مؤسس المكتبة الوطنية الجزائرية.