درس من السفير البريطاني للفرنكوفيليين
تأسف سفير بريطانيا في الجزائر للجوء بعض المسؤولين الجزائريين إلى اللغة الفرنسية في مخاطبته، وقال إن هذا السلوك غريب مع وجود لغتين بحجم اللغة الإنجليزية واللغة العربية (جريدة الشروق عدد 03 فيفري).
إن سعادة السفير صادق مع نفسه ومع المنطق، وهو إذا كان قد أراد بهذا التعليق أن يلقّن هؤلاء المسؤولين الجزائريين درسا في مفهوم السيادة، فإن الذي يجهله أن أمثال هؤلاء المسؤولين لا يرون في سلوكهم هذا منكرا أصلا لأن لهم في هذه اللغة رأيا خاصا… وفي الحديث بها في كل مناسبة هدفا واضحا مقصودا ..
لقد بات اليوم واضحا لكل متبصر أن وضع اللغة العربية في الجزائر لم يعد مجرد “قضية لغة” يجري عليها ما يجري على كل لغة من تطور واغتناء وارتقاء وانتشار أو من ضعف وفقر وتدهور وانحسار، كل ذلك لأسباب موضوعية عديدة ومختلفة، بل أصبح قضية ثقافة ومنظومة قيم وسلوك وذهنية ووجدان، نعم أي مشروع مجتمع مناف لمقومات المجتمع الجزائري الأصيل، هذه المقومات التي بدأت تهتز فعلا في أذهان فئات غير قليلة من المجتمع الجزائري التي تؤمن وتردد على ألسنة من يمثلها من المثقفين والكتّاب المستلبين أن الفرنسية “غنيمة حرب” وأنها لغة تفكير وإبداع حاملة للجديد النّافع وناقلة أمينة لما عند الغير وعامل أساسي للنهوض والتقدم !
ولا يخفى تهافت هذا المنطق الذي يناقضه الواقع والحقيقة والتاريخ، إذ لو كانت الفرنسية في نظر هؤلاء المستميتين في الدفاع عنها مجرد لغة، أي وسيلة وغنيمة حرب كما يقولون فلماذا يحاربون اللغة الإنجليزية ويضيّقون عليها وهم أدرى الناس بأنها لغة العلم والتكنولوجيا الأولى في العالم؟!
الواقع أن الوضعية المتميزة التي تشهدها الجزائر في مجال اللغة، للأسباب الموضوعية التاريخية المعروفة قد أفرزت في مستوى المثقفين الجزائريين فئتين متباينتين، فئة يمثلها أمثال كاتب ياسين صاحب المقولة الشهيرة “الفرنسية غنيمة حرب” وفئة أخرى مقابلة لها يمثلها مالك حداد، ويلخص موقفها من اللغة الفرنسية تعبيره الرائع في إيجاز معجز “هي المنفى” فهو يحسّ بغربة ذهنية ووجدانية وحضارية داخل اللغة التي لا يملك غيرها للتعبير عن هذه الأبعاد نفسها المكونة للذات، فمالك حداد واع كل الوعي بأنه يعيش وضعا شاذا غريبا، ظرفيا وزائلا لأنه غير طبيعي ولذلك عبّر عنه بالمنفى.. وهذا موقف كل سليم الفطرة ممن فرضت عليهم اللغة الفرنسية وحرموا لغتهم الأصلية.
بخلاف الذي يرى في “المنفى اللغوي” أمرا طبيعيا وصحيا، إنه لا يكسب شيئا ولا يغنم شيئا، بل هو إنسان ضائع مستلب لأنه مقطوع الصلة ومبتور الأواصر مع تراث مجتمعه الروحي والثقافي والحضاري..
هذه الفئة من الكتاب والمثقّفين المستلبين تكاثرت لأنها وجدت في عوامل عديدة ما يجعلها تستأنس بهذا “المنفى” بل وتدافع عنه بقوة وتحاجج من يعارض موقفها هذا، ومن هذه العوامل بطبيعة الحال تزايد انتشار اللغة الفرنسية في الجزائر في مختلف المجالات الإدارية والثقافية والفنية والإعلامية.
ولا يخفى عن أحد أن فرنسا تشجع ذلك كله وتبذل كل ما في وسعها للإبقاء على هذا الوضع لتظل الجزائر – باعتبارها بوابة إفريقيا – امتدادا ثقافيا وحضاريا لها. ففرنسا، كما نعلم جميعا، ليس لها أي امتداد ثقافي حضاري بعيدا عن الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، فقضية اللغة بالنسبة لها قضية إستراتيجية حضارية ومصيرية، فليس غريبا إذن أن تهتم وتتابع وضع اللغة في الجزائر بعناية بالغة في جميع المستويات وبخاصة منها مجال التربية والتعليم.
في سنة 2000 مثلا، صرح سفير فرنسا في الجزائر وقال إن بلاده: “مرتاحة للتعديلات التي عرفتها المنظومة التربوية في الجزائر وخاصة فيما يتعلق بإعادة الاعتبار للغة الفرنسية التي أصبحت تدرّس ابتداء من السنة الثانية ابتدائي، وهو الأمر الذي ستدعمه فرنسا وتعمل على تشجيعه ماديا ومعنويا وستسعى لتدعيم مكانة اللغة الفرنسية في الجزائر وذلك بحكم العلاقات التاريخية التي تجمع البلدين“.
إن الوضع المتردي الذي تشهده العربية في الجزائر بدأ منذ الاستقلال، فالدستور الجزائري ينص في كل صيغة منذ 1963 على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية، كما نعلم جميعا، ولكن هناك هوة ظلت قائمة وازدادت اتساعا مع الأيام تفصل ما هو نظري عما هو معيش مطبق في الواقع، أي بين ما نعلن عنه وما نعمل به.
في الواقع نجد اللغة الفرنسية تزداد رسوخا وانتشارا على حساب العربية بالرغم من القوانين الصادرة رسميا القاضية بتعميم استعمالها في كل المجالات إيمانا بأن السيادة لا تكتمل من دون اللغة.
وما من شك في أن المتتبع لقضية التعريب في الجزائر منذ الاستقلال، يدرك أن هناك إرادة “لترسيخ الوضع الشاذ الذي ورثته عن عهد الاستعمار، أي الإبقاء على اللغة الفرنسية لغة الإدارة والإعلام والدبلوماسية والتعليم العالي والتكوين، مع عناد وإصرار، وإن خالف هذا كله التاريخ والوطنية والمنطق. ولا شك كذلك أن هذا المتتبع يقف على الحجج الواهية التي يقدمها أنصار هذا التوجه، والتي تتجدد أشكالها بحسب الظروف والمناسبات ولكنها تبقى في جوهرها ودوافعها واحدة، هي تكريس التبعية الثقافية والحضارية لفرنسا بالتمكين للغتها، والتذرع في الظاهر بأن تعميم العربية تنجر عنه مخاطر شتى، في مقدمتها عرقلة النهوض والتقدم وتعريض الوحدة الوطنية للتصدع والحكم على الأجيال الصاعدة بالجمود والانغلاق .. وما إلى ذلك من الذرائع التي لا وزن لها إلا في أذهان أصحابها، لأن صاحب المنطق السليم لا يناقش ولا يجادل في حقيقة مسلّمة هي أن سيادة أمة، أي أمة واستقلالها لا يكون لهما معنى إذا لم تستكمل سيادتها ولم تتحررّ وتستقل لغويا.
ولقد تمّ دحض هذه الحجج الواهية علميا وموضوعيا فوضعت في ذلك بحوث ودراسات ونظمت ملتقيات وألفت كتب من قبل متخصصين جزائريين وطنيين، ولنا في هذا المجال رصيد مشرف من الناحية النظرية الكمية، ولكن ذلك كله لم يفد في الواقع كثيرا، فالمواقع الإستراتيجية للعربية ما فتئت تزداد انحسارا، بينما يزداد نفوذ الفرنسية وحضورها بقوة في مجالات حساسة من حياتنا الوطنية.
إن التذرع بالحرص على نهضة الجزائر في التمسك بالفرنسية يفنده واقع المجتمعات التي عاشت كلها تجربة الصمود والكفاح والتحرر ثم النهوض والتقدم، ولعل أقرب مثال على ذلك ألمانيا وإسبانيا واليابان وكوريا، فهذه البلدان وغيرها إنما نهضت بلغاتها التي تعتز بها والتي تعبر عن شخصيتها فلم تتبن اللغة الانجليزية مثلا وتتذرع في تبنيها باستعجال امتلاك التكنولوجيا كما يزعم بعضنا نحن بالدعوة إلى التمسك بالفرنسية ثم لو كانت نهضات الشعوب تتم بمجرد استيراد “لغة” أجنبية متقدمة لوجدنا البلدان الإفريقية والآسياوية التي تبنت الفرنسية والإنجليزية قد خرجت من التخلف والتحقت بفرنسا وإنجلترا، ولكن ما لنا نذهب بعيدا وخير مثال على هذه الحقيقة هي الجزائر نفسها، فكلنا يعلم أن الفرنسية هي التي سيرت الإدارة والاقتصاد والصناعة منذ الاستقلال، فلماذا لم تبلغ الجزائر مكانة فرنسا في هذه المجالات؟!
الحقيقة المرة هي أن الجزائر أريد ويراد لها أن تظل رهينة حضارية مسجونة في لغة واحدة هي اللغة الفرنسية، وهي غلّ يشلها عن الحركة في عصر التفتح والتطور لأنها تظل تدور فقط في فلك ما أبدع بهذه اللغة وحدها أي الفرنسية من دون لغات العالم الأخرى المعروفة بالتقدم العلمي والتكنولوجي.
إن الاستقلال السياسي للأمة لا يستقر له أساس مع الزمن إذا لم يتعزز بالاستقلال اللغوي، لأنه لا حاضر لمن لا ماضي له، وماضي الأمم مخزون في ذاكرتها الجماعية ووجدانها العام، وهذا المخزون لا يمكن أن نضمن له الحياة والتواصل عبر الأجيال إلا بالأداة التي صيغ بها أصلا، أي باللغة العربية التي تبناها الجزائريون لغة العلم والحضارة منذ الفتح الإسلامي لهذه الربوع…