-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دروس من مدرسة عبد الحميد مهري رحمه الله

عبد الرزاق مقري
  • 11531
  • 14
دروس من مدرسة عبد الحميد مهري رحمه الله

كم تكون الكتابة ممتعة حينما يتحدث المرء عن صفحات جميلة في تاريخ بلده. يشعر الإنسان بسعادة كبيرة حين تُتاح له فرصةٌ ليبين بأن الحركة الوطنية الجزائرية لم تكن مؤامرات وصراعات دامية على السلطة والجاه لا غير، كما توحي به المقالات الكثيرة التي صدرت مؤخرا في الصحافة الجزائرية. لقد قيّض الله لهذا الوطن رجالا كبارا أعطوا النموذج والمثل على حقيقة الوطنية والأخلاق العالية. منهم من قضى نحبه مبكرا قبل الاستقلال، ومنهم من قضى بعده، وقليل منهم ينتظر الأجل لم يغير ولم يبدل. لا أزكي على الله أحدا ولكنني أحسب أن عبد الحميد مهري رحمه الله من هؤلاء، فهو الذي خرج من الدنيا نظيف السمعة لم تتلطخ سمعته بما يشين الرجال بعد عمر طويل تقلد فيه العديد من المسؤوليات والمهمات، ولو كان ممن أساؤوا لضمائرهم ومروءتهم لعلم الناس ذلك إذ “لا يَضرُّ النبلَ بهتانٌ ولا يغسل العارَ سلطانٌ”. وبهذا النبل يؤكد المرحوم بعد وفاته بأن السياسة ليست نقيض الأخلاق الفاضلة وأن ضرب السَّاسة بالجملة لمجرد اشتغالهم بالسياسية هو منهج ساذج يهواه الغافلون أو مخطط آثم يمتهنه المجرمون.

 

رأيت في تجربتي السياسية رهطا من الناس جاءت بهم الظروف ليكونوا مسؤولين في فترة ما من أعمارهم فقرروا أن يُبْقوا وهمَ المسؤولية في أذهانهم ولو أًبْعِدُوا عنها، يسجنون أنفسهم وسط هذا الوهم مدى الحياة، لا يتسامحون في طقوس البروتوكول الرسمي ولو مع أقرب الناس إليهم، يخربون البيوت العامرة من أجل أن يبقوا مسؤولين، والويل كل الويل لمن لم يعترف لهم بذلك. لو لم يعطنا الله نماذج أخرى كأمثال سي عبد الحميد لكفرنا بالسياسة وتركناها، ولصدًّقنا من يقول بأن السياسة مفسدة للضمير وأنها رجس من عمل الشيطان. لقد كان مهري رحمه علما من أعلام الحركة الوطنية ووجها ناصعا من وجوه قادة الثورة، ورغم ذلك لم يجد حرجا في أن يلتحق بمهنة التعليم بعد الاستقلال وأن يعيش حياة المواطن العادي. حينما كنت أذهب إلى بيته لآخذه معي لاجتماعات مؤسسة القدس أو يأتي به أخي محمد دويبي كان كلانا يستغرب دقة انضباط الرجل وتواضعه وعدم مؤاخذته المتأخرين عن الموعد والتماس الأعذار للناس وعلو الأدب في طلب الانصراف حينما يحصره موعد آخر، حتى لَتشعر بأنك أمام رجل من عموم الناس لا يطلب لنفسه تعاملا خاصا أو اعتبارا مميزا. يحسبه الجاهل بقدره رجلا عاديا بلا تاريخ ولا أمجاد في  حياته.. ألا من أراد الرفعة هذه طريقها ومن استمرأ الكبر مات حقيرا، ومن لم يصدق فليسأل الجنائز.. كيف يذكر الناس هذا بعد موته وكيف يذكرون ذاك حين يهلك! ثم إلى الله المصير.

سمعت كثيرا من المناوئين لعبد الحميد مهري في حياته، وربما بعض الأصدقاء، يقولون بأنه رجل متردد لا يتخذ المواقف الصارمة وأنه يمسك العصا من وسطها دائما، وقد كدت أظن به ذلك أنا الآخر حين كنت ألاحقه بالأسئلة على هامش لقاءات مؤسسة القدس عن تاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية وبناء المغرب العربي والانقلابات التي تعرّض لها في جبهة التحرير وصراعات الهوية في الدوائر الرسمية وقضية فلسطين. لم تكن أجوبته في ذلك كله تُشبع نهم من يستمع إليه، فيَملُّ المستمع في البداية صحبته ويظن بأن الحديث يخيفه، ولكن بعد أن تستوثق الصلة به يُدرك المتحدث إليه بأنها حكمة المُجرِّب الذي يقتني الأوعية التي يضع فيها درره. وحتى حينما يستأنس بك لن تجده ذلك الرجل المهذار الذي لا يتوقف عن الحديث، بل عليك في كل الأحوال أن تفهم منهجه في الخطاب حتى تستفيد من رسائله المشفرة وأجوبته المختصرة. غير أن الذي ينفي عنه هذه التهمة نفيا قاطعا أنه اتخذ موقفا تاريخيا صارما ضد إلغاء انتخابات1991 عوقب من أجله عقابا قاسيا لاحقه إلى حين وفاته، واجه به دولة بكاملها بكل مؤسساتها حينما استولى عنها جماعة “الجونفييرست“.

لقد فعل مهري ذلك بالرغم من أنه كان يمثل الحزب الخاسر في تلك الانتخابات. لم تكن نظرته رحمه وهو يفعل ذلك نظرة حزبية ضيقة. إن تجربته ونزاهته وقامته وفهمه للشأن السياسي وتقلباته لم تكن لتجعله يخاف من فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ. كانت جبهة الإنقاذ بالنسبة إليه مجرد حزب سياسي يأخذ دوره فإن أمتع الجزائريين كان جديرا بفوزه وإن أتعسهم هم من سيتكفلون بالإطاحة به، بالانتخابات أو بالخلع إن أبى، مهما كانت قوته ومهما طال زمنه، وفي قصص الزمن السياسي الراهن خير دليل. لقد كانت قراءة سي عبد الحميد واقعية وحكيمة أثبت الزمان صحتها، إذ أي ربح نالته الجزائر بإلغاء تلك الانتخابات سوى الدماء والدموع والفساد والهيمنة والتخلف وضعف مؤسسات الدولة وتقهقر منظمات المجتمع. إن هذا الموقف الصارم المتناقض ظاهريا مع شخصية عبد الحميد يدل بأن السياسي النزيه القوي مهما كان اعتداله ووسطيته ورفقه وليونته وتعامله الواقعي مع المتاح لا بد له أن يثور يوما ما إذا لامس الموقف ضميره ووجد نفسه أمام مسؤوليته التي لا يحاسبه عليها إلا الله، ثم عليه بعد ذلك أن يصبر على لأواء الموقف فسينصره الزمن بعد حين ولو بعد وفاته، وإنما خزي التاريخ على من باع الموقف بعرض زهيد! ثم إلى الله المصير.

حينما سمعت من عبد الحميد مهري وهو يتجاذب أطراف الحديث مع الشيخ محفوظ رحمهما الله سنة 1994 قوله: “إن نظام الحكم يخطئ حينما يعتقد بأنه يقوي الدولة بإضعاف الأحزاب” عددت ذلك منهجا سياسيا كاملا لم أتوان في الدفاع عنه أبدا. وحينما تابعت التصرفات السياسية لسي عبد الحميد أدركت بأن هذا الرأي ليس مجرد منهج فحسب بل هو مدرسة بكاملها. حينما أتيحت له الفرصة لقيادة جبهة التحرير الوطني قرر أن يُخرجها من وضعية الجهاز الذي يستعمله الحاكم (أو الحكام) كما تُستعمل الإدارة والإذاعة والتلفزيون لبناء مجد السلط الخفية واستمرار حكمها.

ولا أستبعد بأنه بوقوفه ضد إلغاء انتخابات1991 كان يثق في نفسه بأنه يقدر على إعادة بناء الجبهة في المعارضة والعودة بها مرة أخرى للحكم بكل قوة ومصداقية. ورغم الانقلاب عليه في المؤتمر السادس للجبهة سنة 1996 من خلال مؤامرة شديدة الإحكام استمر في التمسك بمنهج عدم إضعاف الأحزاب وقبل اللعبة رغم عدم نزاهتها ولزم مكانه هادئا حتى انتهى المؤتمر وسمح لمن أخذوا منه الجبهة ـ وهو أولى بها منهم ـ أن يستمروا في طريقهم ولم يستعمل رمزيته في تشتيت حزبه وبناء دكان سياسي للرياء الإعلامي والنرجسيات الصغيرة. إن هذا السلوك الذي التزم به مهري وغيره من أبناء مدرسته في قصص مشابهة هو من مَعين ثقافة الحركة الوطنية الأصيلة والوفاء الصادق للمنهج والتاريخ أو على الأقل هو دليل على القراءة الصحيحة للمعطيات السياسية والفهم العميق لمعنى الربح والخسارة.

فهل سيقرأ نظام الحكم من مدرسة مهري فيدع الأحزاب وشأنها لعله يخرج منها ما ينفع الوطن، وهل ستدرك جبهة التحرير رؤية مهري فتقبل إمكانية النمو في المعارضة بعيدا عمّن حكم  ويحكم باسمها زورا، وهل سيرتفع الإسلاميون إلى مقام مهري فيقلعوا عن خدمة نظام الحكم بتشتتهم وتشرذمهم لأسباب واهية لا يقتنع بها أحد، بل لا يقتنع بها أصحابها ذاتهم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
14
  • أم أيمن

    يعجب المرء فعلا مما يقرأ من تعليقات ، و الله كلما ازداد القادحون ازددنا تمسكا بمبادئنا . بارك الله فيك يا أستاذ و أخرس الله كل من يتطاول عليك

  • سليمان خكوم

    أنا أعجب لقسوة بعض التعليقات ما الدي أساء فيه مقري لنا؟ألم يحترم مهري فكتب عنه ولم يقل إنه يقيمه أو يحاكمه بل قال لنا هاهي دروس تعلمتها منه ولم يقل علمتها إياه؟ وشهد له بما علم بصدق وليس من باب دكر محاسن الموتى؟ووضع نفسه موضع التلميد الدي يحمل لزميله الدي لم يحضر الدرس نسخة منه؟نظر إلى مهري كقامة فكرية وليس كمسؤول حزبي؟ ولم يشر بكلمة لوم لغيره على ما فعلوه بمهري؟فإدا كان مقري قد تهلم الدرس ونقله فما دنب محفوظ أو حماس والرجل لم يكتب باسمها تعلموا الدرس يا ناس قبل أن ينتهي وااله يرحم مهري

  • سليمان خكوم

    لـيـــــــت مـهـــــــري
    في رثاء المرحوم عبد الحميد مهري
    أرفض النعي بكـاء ورثـاء
    سبق "المهـري" وذاك دأبه أنا لا أندب موت العظمـاء
    سابق في الرأي كل الرفقاء
    إن ((مهري)) لم يمت لكنما ماتت النخوة فينـا والإبـاء
    ليت مهري كان شيئا ما ولم يك يوما من رفاق الشهداء
    أو يكن قد كان في مأساتنـا بهلوانا في قصور القصراء
    ليته لم يخلص النصح لمـن يعرفون الحق لكـن جبنـاء
    حينهـا ندفنـه في موكـب بجوار الراقصين الأوفـياء
    فلمـاذا نحن نبـكي مثلـه ونجيد الدهـر قتل الأنبيـاء

    يا (بني مهرة) لا مهري لكم حيث(بيجو والإليزي) زعماء
    إن مهـري لم يمت لكنمـا مات فينا الواقف

  • said_khemissa

    يعنى ان الرجل ايرز نفسه انه بامكانه تقييم عبد الحميد مهرى رحمه الله وبما انه يعتقد ذلك فهو يعتقد بالضرورة انه اكثر اهمية اواكثر درجة
    لاسيما ان الرجل استغل التشابه فى الاسم لابراز ان عبد الحميد مهرى او عبدالرزاق مقرى هو نفسه ونفس البرج الذى ينتمى اليه وبالتالى نفس التفكير وبالتالى يمكن تصور مسار الصغير بالمطابقة على مسار الكبير
    ومن ناحية اخرى فان في كلامه مبالغة مفتعلة
    الرجل الذى لم يجد الا امتطاء ظهر المرحوم بهدف استقطاب اصوات او الاستيلاء على ارث المرحوم

  • HOCINE

    فالشائعات سلاح مدمَّر إذا إستهدفت كرامة الإنسان وسمعته تحولت إلى دمار يزعزع ثقة الناس في صاحب سمعة كان لهم قدوة، لذلك، لما فشلت مخططات المشركين واليهود والمنافقين في النيل من رسالة الإسلام "فبركوا" حادثة الإفك لتشويه سمعة قدوة المسلمين وإسوتهم محمد (صلى الله عليه وسلم) وعطلوا المسيرة 30 يوما حتى نزلت سورة النور "لتبدد" ظلمات المرجفين في المدينة.

  • HOCINE

    الناس:
    هوائيون : يتأثرون بالدعاية والإشاعة، فيرضون عنك في الصباح فيمدحونك وكأنك ملك كريم، ويسخطون عليك في المساء فيذمونك وكأنك شيطان رجيم، وهؤلاء هم الذين قال فيهم القرآن الكريم : "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق (أي المصلحة) يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم إرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله..".
    - العلاج : قل لهم في أنفسهم قولا معروفا، وأفضل طريقة لمعالجة أمراضهم الهوائية هي توجيه الحديث إلى غيرهم بحضورهم – دون التوجه إلى مخاطبتهم مباشرة

  • محمد

    أنه اتخذ موقفا تاريخيا صارما ضد إلغاء انتخابات1991 عوقب من أجله عقابا قاسيا لاحقه إلى حين وفاته.ومادا كانت موقفكم انتم من يدعون اسلاميون .هرولتم ورقصتم .ومازلتم حتى الان .والان تطالبون بالتحالف الاسلامي لكي تكسى وتستر عوراتهم على مواقفهم المدل والحقيرة هيهات هيهات ان تكن لكم هده المرة . هل تعتقدون ان الشعب غافلا عن ما تفعلون (هل تدرك ياسي مقرأ ان قفة رمضان كات تتوزع في منتصف الليل .وهل تدرك ان المشاريع كان تعطى لمناضلين الحمص .برلمان يستحق لرجال واقفون وليس لدمى

  • م ط ر

    غريب امر قادة حمس في الوقت الذي تشيد ون بمواقف الرجل حينما عارض إلغاء الانتخابات وتعرضه للاقصاء كنتم انتم تفاوظون النظام حول المكاسب والمناصب . من اجل هذه المواقف الانتهازية يكرهكم الشعب
    والتعليقات خير دليل اما مؤيدوكم فان التعصب الالعمى هو ما يحركهم مثل النعرات القبلية والعروشية مثلما فعلت حركتكم في مدينة بريكة من اجل الفوز بالمجلس البلدي فالانتخابات الماضية
    قد لا اتفق مع حركتكم لكنني احترم آراكم مال تكن على قاعدة
    دابنا ولا عود الناس سلا م عليكم

  • mohamed

    سلام؛
    نصيحة للأخ الفاضل عبد الرزاق، أن يا أخي الكريم التزم برأي الجماعة في حركتك و لا تتعصب لرأيك و بدلا من ضرب مواقف الحركة و مكتسباتها الاستراتيجية انضم لإخوانك و هلم معهم إلى نصر قادم إن شاء الله.

  • musulman

    جزاك الله خيرا,,فعلا كلامك حق و أفتخر بك
    أخوكم من العربية السعودية بمكة المكرمة

  • musulman

    جزاك الله خيرا,,فعلا كلامك حق و أفتخر بك
    أخوكم من العربية السعودية بمكة المكرمة

  • شكرا

    مقالك يؤسس لعهد جديد في السياسة لأول مرة أرى زعيما سياسيا يكتب مقالا عن زعيم في حزب آخر شكرا

  • علي برابح

    لا نقبل كلامك يا سي عبد الرزاق حتى تكون أنت من يقود حمس أو تخرج منها

  • بوزيد

    السيد مقري انت من الشخصيات النادرة التي تقول الحق ولا تخشى فيه لومة لائم ; انا اقدرك لشخصك و افكارك و منهجيتك ولكن المضلة التي تقيك ليست على مقاسك ايها الرجل الفاضل