الرأي

دعْه يعمل.. دعْه يمر.. ما لم يضر

أبو جرة سلطاني
  • 1542
  • 12

لا يوجد فوق هذا الكوكب مجتمعٌ متجانس في الغرائز والطبائع والطّموحات.. إلاّ في عالم النّحل. فإذا وُجد فاعلم أنه أحد تجّمعيْن: إما أنه تجمّع من القطيع يسوقه راعي إلى المزرعة ليرتع أو إلى المسلخ ليُذبح. وإما أنه تجمّع من العبيد له سيّد واحد، وبقيّة أفراده أصفار على الشّمال. ولا توجد حالة ثالثة. والطبيعي في المجتمعات البشريّة أنها أنساق فكريّة وثقافيّة ولغويّة.. متعاقدة على ما يتمّ به التعارف والتآلف والتعاون.. لتحقيق العدل ومحاصرة الجور وتأمين العيش المشترك، والتّخفيف من معاناة المعذَّبين في الأرض. ولا يوجد عقد لا يسبقه حوار يتم فيه تحديد علاقة الحقّ بالواجب. وعادة ما يدور الحوار في البلاد الإسلاميّة حول خمسة مفاهيم مازال يكتنفها الغموض.
ـ الثابت والمتغيّر في ثقافة أبناء الإسلام.
ـ حدود الاجتهاد البشري في بناء الدّولة وسياسة الناس.
ـ الخطاب الإسلامي هل هو دين أم تاريخ أم تدبير شأن عام؟
ـ العلاقة بين الدّعوة والدّولة في الفكر والممارسة بين الواقع المعمول والمثال المأمول.
ـ المعاهدات والعقود والمواثيق في الدساتير والعلاقات الدّوليّة.. هل هي التزام أم مراحل انتقاليّة؟
في وطني فريقان يتنازعان قيادة الرأي: فريق متعصّب للزّمن البروليتاري، ورث ثقافته عن صيرورة تاريخ قديم يدعو منظّروه إلى مشاعة عامّة في المال والأرض والعرض.. ويتحدّث عن بقايا نضال ثوريّ “بروليتاري” يحاول أن يعيد التّأسيس لثقافة لم يعد لها وجودٌ فوق هذه الأرض إلاّ في دولتيْن، يعرف القاصي والدّاني أخبارهما. ومع ذلك أجد بعض أبناء جلدتي يتعصّبون لمثل هذه الأنظمة الشّموليّة المغلقة التي لا يريد زعماؤها أن يعترفوا بأن العالم قد تغيّر، وأنّ جدار برلين قد سقط، وأنّ القبضة الحديدية بين المعسكريْن قد استرخت، وأنّ الزّمن الإيديولوجي قد فقد ألوانه الفاقعة، وأنّ الطبقة الكادحة قد مسّها داء البورجوازيّة الصّغيرة، وأنّ مداخن المصانع قد تحوّل وقودها من الفحم الحجري إلى الوقود النّووي. وفريق متعصّب لزمن التأسيس الأوّل، وكأنّ الزّمن توقّف في السّنة العاشرة الهجريّة. وأنّ الخلفاء الأربعة لم يجتهد كل واحد منه لزمانه وظروفه وأحوال أمّته. وأنّ لكل جيل زمانه وأدواته وأقضيته.. وأنّ عصر الحاكم المتغلِّب والمستبد العادل قد طوت حركة الزّمن أشرعته؛ فالزّمن قد استدار أكثر من مرّة، ومع ذلك لا يزال بعض سجناء التّقليد يعتقدون أنّ الزّمن راكد، لا يدور ولا يتغيّر ولا يتجدّد.. فكل جديد عندهم “بدعة” وأنّ الله تعالى لا يداول الأيام بين الناس.. فهم وحدهم الفرقة النّاجيّة وبقيّة العالم ـ بمن فيهم المسلمون ـ في النار. وكلا الفريقيْن يمارس تعصّبا ممقوتا ومرفوضًا ومردودًا على أصحابه.
العيب ليس في تعصّب أهل اليسار إلى تاريخ انتهت دورتُه، ولا في مشايعتهم مؤسّسي هذا الفكر، والإعجاب برموزه وفكرهم وقناعاتهم. والعيب كذلك ليس في تعصّب أهل اليمين إلى عقائدهم وفكرهم وتصوّراتهم.. إنما العيب يكمن في عجز النّخب عن اللقاء والحوار لردْم هذه الهوّة وتجسير العلاقة بين طرفيْن نقيضيْن لا يلتقيان ولا يتحاوران، ولكل طرف حكمُه على من لم يسمع حجّته إلاّ من خلال تصرّفات النّماذج القلِقة المحسوبة على الفريقيْن، اعتقادا من كل فريق أنه هو الحقّ المطلق وغيره الباطل المبين. وأنّ ما بين يديْه مقدّس وما عند خصْمه مدنّس، من غير أن يعطي الفريقان لنفسيْهما فرصة للحوار المباشر والصّريح حول “المشتركات الأوسع” التي تجمعهما على الأهداف الكبرى (ثوابت الأمّة ومقوّمات الدّولة وكرامة الإنسان..) بصرف النظر عن حجْم الخطأ والصّواب لدى كل فريق. وسوف يكتشف المتشدّدون، من كلا الطرفيْن، أنّ الخلل ليس في أن تعتقد أنك مصيب وغيرك مخطئ؛ فهذا أمر طبيعي ولا أحد يعتقد أنه على باطل. بل العيب أنّ تضرب على نفسك وعلى من حولك سورًا إيديولوجيّا سميكا، تعزّزه بعزلة نفسيّة، أو تنسج حول المنتسبين إليك شرنقة تنظيميّة تصادر بموجبها حقّ العقل في اكتشاف ما عند اللون المغاير من بضاعة، وتتيح لنفسك حريّة نخبتك فحسب، فيقابلك الطّرف الآخر بعزلة شعوريّة تقيم بينك وبينه خندقا يصعب خرقه أو اجتيازه، فتكون النتيجة:
ـ سيطرة الغوغاء على زمام المبادرة بينما النّخب تشكو الفراغ.
ـ تأخّر العلم والفكر والأدب.. ليتصدر المالُ المشهدَ السياسي والرّياضي والتّربوي والثّقافي..
ـ تمييع المسئوليّة بميلاد مصطلح “مسئول غير مسئول”، ففي الرّخاء كلنا مسئولون عن الوفرة، أما في الشدّة فلا أحد مسئول عن الإفلاس.
ـ سكوت أهل الرّأي وبروز جيل مواقع التّواصل الاجتماعي الذي يروي عن غوغل وتويتر وفايس بوك..
في مثل هذه الأجواء، من الطّبيعي أن يختلف الناس في الأفكار والتّصوّرات والرّؤى والقناعات، بل حتّى في الثّوابت والمبادئ والبديهيات.. وطبيعي أيضا أن تتباين طرائق العمل بينهم، ماداموا مختلفين. وطبيعي كذلك أن تتنوّع الوسائل الموصِلة إلى هدف واحد أو إلى أهداف متقاربة ومتكاملة تصبّ في المصلحة المشتركة. ولكنْ غير الطبيعي وغير المنطقي وغير المقبول تاريخا وثقافة وأخلاقا وقانونا وإنسانيّة، هو أنْ يصبح التعصّب للرّأي سدّا حاجزا بين تلاقي الأفكار. ويصبح التطرّف ثقافة مانعة من التعارف والحوار وتبادل وجهات النظر حول حاضر الأمّة ومستقبلها. وتصبح القلّة مسيطرة على الأغلبيّة بحُكم علوّ صوتها في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، باعتقاد أن الأرفع صوتا هو صاحب الحقّ، وأنه كلما علا صوت التطرّف خفت صوت الاعتدال، وكلما احمرّت عينا الرّذيلة طأطأت الفضيلة رأسها..

فما هو الحلّ يا تُرى؟

الحلّ هو: الحوار الواسع المفتوح، الذي لا يتلوّن بالإيديولوجيا، ولا يتخندق خلف مفهوم حزبي ضيّق، ولا يتدثّر بدثار البدعة والضلالة، ولا بسياسة النّأي بالنّفس عن مناظرة السّلف، أو باسم الحداثة والخلف. الحوار هو طريق التعارف، ومناخ التجديد، وفضاء التفتّح على الأصالة والمعاصرة في الدّاخل والانفتاح الواسع على العالم الخارجي بخصوصيات تخصّ كل قُطر، يساهم تلاقحُها في إثراء مفردات قاموس التعايش بين المتساكنين، ويضمن حركة أوسع للنّخب، تكسر بها الأنماط التقليديّة لمفهوم الفكر المغلق الذي تجد فيه بعض التيارات القلِقة الملاذ الآمن لإقصاء الآخر بلون أيديولوجي واحد. هذا التفكير لم يعد ملائما لمواكبة عصر التحوّلات المتسارعة التي لا تؤمن سوى بالتّجديد. فالفكر الحرّ والرّأي الحرّ ـ مع تنوّع وسائل العمل ـ هو منهج المتفائلين الذين يعملون بشعار جميل: “دعْهُ يعمل. دعْه يمرّ. ما لم يضرّْ”.

غير الطبيعي وغير المنطقي وغير المقبول تاريخا وثقافة وأخلاقا وقانونا وإنسانيّة، هو أنْ يصبح التعصّب للرّأي سدّا حاجزا بين تلاقي الأفكار. ويصبح التطرّف ثقافة مانعة من التعارف والحوار وتبادل وجهات النظر حول حاضر الأمّة ومستقبلها. وتصبح القلّة مسيطرة على الأغلبيّة بحُكم علوّ صوتها في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

مقالات ذات صلة