-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دور الطلبة الجزائريين في الدفاع عن الوطن عبر التاريخ

دور الطلبة الجزائريين في الدفاع عن الوطن عبر التاريخ
أرشيف

شاركت هذه السنة في فعاليات الاحتفال باليوم الوطني للطالب الذي يصادف يوم 19 ماي من كلّ سنة، التي نظمتها الجامعة 3 بحي بن عكنون.

ففي مثل هذا اليوم من سنة 1956م قرّر الطلبة الجزائريون المنضوون تحت لواء الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين (UGEMA)التضحية بالدراسة من أجل الانضمام إلى صفوف ثورة نوفمبر المباركة، بعد تأكدهم أنه لا معنى للتحصيل العلمي في ظل نير الاستعمار، ولا فائدة ترجى من “الشهادة العلمية” في ظل فقدان السيادة الوطنية. هذا وكان الاستعمار الفرنسي قد استكثر منح المواطنية الفرنسية حتى على النخبة الجزائرية المتعلمة بالفرنسية على قلتها. ولعلمكم فإن “نسبة الأمية” في الأوساط الجزائرية عشية اندلاع ثورة أوّل نوفمبر 1954م، كانت تقدر – حسب شهادة المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجيرون- بحوالي 92%، ذاكرا أن عدد الطلبة الجزائريين المسجّلين في الجامعة لم يتجاوز 589 مُسجّلا من الجنسين!

وبمناسبة حلول ذكرى “يوم الطالب” رأيت أنه من الأنسب أن أجعلها جسرا يربط بين ماضينا وحاضرنا، لأننا نحتفل من أجل تحصين شبابنا بـ”الوعي التاريخي” الذي هو بمثابة الحصن الحصين يحثهم على التضحية بالنفس والنفيس لحماية الوطن، في زمننا هذا المتميز بالصدام الحضاري الذي يفرضه علينا العالم الغربي ذو النزعة الاستعمارية الأبدية. فالشباب المحصّن بالوعي التاريخي لا يمكن لأي قوة أجنبية باغية أن تخادعه، وفي هذا المعنى قال أمير الشعراء: واخدع الأحياء ما شئت فلن«» تجد التاريخ في المنخدعين.

أودّ أن أشير في هذه الكلمة القصيرة إلى أن مشاركة الطلبة في الدفاع عن الوطن الجزائري، لم تقتصر على ثورة أول نوفمبر 1954م فقط، بل هي ضاربة بجذورها في أعماق تاريخنا. وسأكتفي في هذا المقام بذكر بعض الأمثلة من أعماق التاريخ، على أمل أن يحظى هذا الموضوع باهتمام الطلبة الباحثين وهم يغوصون بأقلامهم في أغوار تاريخنا، من أجل إماطة اللثام ونفض غبار النسيان عنه، وهو لا يزال – في رأيي – بكرا لم ينل حقه من الدراسة بعد.

من المحطات التاريخية الهامة التي تؤكد مشاركة طلبة العلم في الدفاع عن الوطن، تحرير وهران من قبضة احتلال الأسبان، على مرحلتين؛ كانت الأولى تحت قيادة مصطفى بوشلاغم باي الغرب الجزائري الذي حررها سنة 1708م، لكن الأسبان تمكنوا من إعادة احتلالها من جديد سنة 1732م. ولما أدرك هذا الباي عجز قواته عن تحرير وهران وعن حماية بايلك الغرب من تحرشات الأسبان، تحالف مع شيوخ الزوايا التعليمية لما لهم من سلطة روحية على الرأي العام، بنيّة طرد الأسبان المحتل. والحاصل أن ضعف السلطة الرسمية قد أقنع شيوخ المؤسسات التعليمية، بضرورة إدراج الدفاع عن الوطن ضمن واجبات طلبة العلم، الذين كانوا يرابطون في زواياهم لطلب العلم وللدفاع عن أرض المسلمين كلما هدّدها التوسع المسيحي الاسباني. واستمر الحال على هذا المنوال في عهد الباي محمد عثمان الكبير الذي تمكن من تحرير وهران من قبضة الأسبان بصفة نهائية سنة 1792م بدعم من طلبة زوايا الغرب الجزائريّ. وكان هذا الحدث من الأيام المشهودة في تاريخنا، خلّده الشعراء والمؤرخون بالمدح والتدوين. ويمكن لمن أراد التوسع في مجال تحرير وهران، أن يعود إلى مصادر تاريخية معروفة، أذكر منها على سبيل المثال:

 – الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني، أحمد بن سحنون الراشدي، تحقيق وتقديم المهدي البوعبدلي، منشورات وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، مطبعة البعث قسنطينة، 1973م.

 – التحفة المرضية في الدولة البكداشية في بلاد الجزائر المحمية، محمد بن ميمون الجزائري.

 – بهجة الناظر في أخبار الداخلين تحت ولاية الأسبانيين من الأعراب كبني عامر، الشيخ عبد القادر بن عبد الله المشرفي.

 – عجائب الأسفار ولطائف الأخبار، محمد أبوراس الناصري.

هذا وقد ذكر الضابط الفرنسي جوزيف نيل روبان في كتابه الموسوم: معلومات تاريخية عن منطقة القبائل الكبرى(Notes historiques sur la Grande Kabylie) أنّ الزوايا التعليمية في هذه المنطقة، قد دعّمت الداي حسين في معركة سطاوالي في شهر جوان 1830م بحوالي 25 ألف متطوع، وكان الطلبة في مقدمة المستجيبين لنداء الجهاد.

وبعد استسلام الداي حسين للمحتلين الفرنسيين، ظهرت المقاومة الشعبية في كل أنحاء الجزائر، بقيادة الزوايا التعليمية، جنّدت طلبتها بالدرجة الأولى، ثم الجماهير الواسعة تحت راية الجهاد، ولعل أهم هذه المؤسسات التعليمية زاوية عائلة الأمير عبد القادر في الغرب الجزائري، والزاوية الرحمانية في منطقة القبائل، وزاوية واحة الزعاطشة في بسكرة، وغيرها من الزوايا الأخرى في كل ربوع الوطن. هذا وقد كتب الضباط الفرنسيون في القرن 19م كتبا كثيرة وتقارير عديدة حول مشاركة شيوخ وطلبة الزوايا في الجهاد، ينبّهون فيها حكوماتهم إلى وجوب التصدي لهم بالقمع والتقتيل والنفي وغلق زواياهم المبثوثة في التراب الوطني. ولعل أشهر كتاب في هذا المجال هو كتاب “مرابطون وإخوان، دراسة حول الإسلام في الجزائر”، لكاتبه لوي رين، الصادر سنة 1884م بالجزائر، كشف فيه بالتفصيل دور الزوايا والطرقية في تجنيد الطلبة والجماهير للمشاركة في الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي. هذا وقد دمّر الجيش الفرنسي الكثير من الزوايا التعليمية التي تصدت بالجهاد للتوسع الاستعماري في الجزائر.

ومن الأمثلة الساطعة لمشاركة الطلبة في مقاومة الاحتلال الفرنسي خلال القرن 19م، تجنيدُ طلبة مركز التكوين المهني لمدينة لربعا ناث يراثن(ولاية تيزي وزو حاليا)، ضمن انتفاضة 1871م، وقد وظفوا ما تعلموه من فنون الحياة في الهجوم على ثكنة المدينة الحصينة، باستعمال السلالم الحبالية أثناء اقتحامها. ونتيجة لذلك تم إغلاق المركز نهائيا.

أما المدارس الحرّة التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين، فقد وصفها المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجيرون بكونها قلاعا للوطنية الجزائرية، غايتها حماية الهوية الجزائرية المسلمة من المسخ ومن الاندماج في الثقافة الفرنسية الغازية، عن طريق تحصين المتعلمين فيها بالوعي التاريخي، والوعي الإسلامي، جاعلة من اللغة العربية لغة للعلوم العصرية، وهذا ما جعل طلبتها متشبعين بالروح الوطنية، وعليه لم يتأخروا في الانضمام إلى صفوف ثورة نوفمبر بعد اندلاعها.

هذا وقد ذكر المجاهد حسين آيت أحمد ( وهو من قادة الحركة الوطنية وثورة أوّل نوفمبر 1954م) في مذكراته “Mémoires d′ un Combattant,1942-1952” أنه توقف بمعية بعض زملائه عن الدراسة في ثانوية بن عكنون بالجزائر العاصمة في شهر ماي 1945م، بطلب من حزب الشعب الجزائري الذي كان يناضل في صفوفه، وهذا في إطار الاستعداد لتعميم الثورة بعد أحداث 8 ماي 1945م.

ومن المؤلفات التي اطلعتُ عليها، مذكرات الجنرال حسين بن معلم المولود سنة 1939م في قلعة بني عباس (ولاية بجاية حاليا)، الذي استجاب لنداء الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، القاضي بمغادرة مقاعد الدراسة في 19 ماي 1956م، وكان آنذاك طالبا في ثانوية سطيف لا يتجاوز عمره آنذاك 17 سنة. وقد اتخذه – في وقت لاحق- العقيد عميروش (قائد الولاية الثالثة التاريخية) كاتبا له.

إن ما يستخلص من هذه القراءة التاريخية السريعة، أن واجب الطلبة لم يكن في الماضي ينحصر في التحصيل العلمي فقط، بل كانت المؤسسات التعليمية أيضا “رباطات” لحماية الثغور من هجمات الأسبان بصفة خاصة، وقلاعا للجهاد عندما يتعرض الوطن لعدوان خارجي كما حدث مع الغزو الفرنسي للجزائر. وبعد أن تمكن الاستعمار من قمع الثورات الشعبية، شدّد تضييقه على مؤسسات الزوايا التعليمية، ومنعها من تدريس باب الجهاد في الفقه الإسلامي. بيد أن ذلك لم يمنعها من احتضان ثورة نوفمبر، الأمر الذي جعل الاستعمار الفرنسي ينتقم منها بتدمير الكثير منها. وفي هذا السياق أشار المجاهد الأستاذ محمد الصالح الصديق في بعض كتبه إلى تخريب وإحراق زاوية عبد الرحمن اليلولي(ولاية تيزي وزو حاليا) التي كان يشرف عليها، ولمّا كان مستهدفا من طرف الجيش الفرنسي، فقد أمرته قيادة الثورة بالسفر إلى تونس، حيث واصل واجب النضال في إطار المعركة الإعلامية التي كان يخوضها المجاهدون للتعريف بالثورة، وللتصدي لأكاذيب الاستعمار الفرنسي المضللة.

وتجدر الإشارة أيضا إلى أن مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تقصّر في واجب إعداد طلبة مدارسها إعدادا وطنيا، أهّلهم لخوض غمار معركة التحرير في اليوم الموعود،(يا نشء أنت رجاؤنا / وبك الصباح قد اقترب).

هذا مجرّد غَيْض من فَيْض ممّا يمكن أن يقال عن دور الطلبة الجزائريين في الدفاع عن وطنهم في مختلف العصور. وأدعو الطلبة إلى مزيد من الاهتمام بالموضوع، بالمطالعة المتمعّنة وبالبحث العلمي الرصين. فقد حمل أسلافكم البنادق في أيام العسر لتحرير الوطن، وها أنتم ترفعون الأقلام لبنائه في أيّام السلم والحرية. والله وليّ التوفيق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!